سواء صح ذلك ام لم يصح فإن مرحلة جديدة في تاريخ المعهد بدأت تتشكل ملامحها، وأهم عناوينها هو تراجع الدور العربي، بل تقاعسه واستقالته عن ممارسة مسؤولياته، هذا في الوقت الذي تنشغل فيه باريس بالحديث عن فضيحة السطو على محتويات المتحف التابع للمعهد، والتي نسبت الى مديره ابراهيم العلوي، وتبين في خاتمة المطاف انها عبارة عن عملية سوء تنظيم لا أكثر، لكن الطريقة المتسرعة التي عالجت بها ادارة المعهد القضية اساءت لسمعة المعهد، وكادت ان تظهره كوكر للصوص، ووصلت الاصداء حتى صنعاء التي اعتقدت ان بعض آثارها المعارة للمتحف، وقعت ضحية السرقة.

هل تكلل احتفالات معهد العالم العربي بذكرى انطلاقته العشرين في نهاية هذا العام، بحل جذري للأزمة المالية التي ما انفك يعاني من وطأتها منذ عدة سنوات؟ هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه اليوم في باريس، بعد ان وصل الوضع الى نقطة حرجة استدعت اللجوء الى خطة تقشف قاسية، بدأت بتسريح مجموعة من العاملين (تسعة موظفين)، والاستغناء عن جزء من النشاطات. ويطرح هذا السؤال بعد وقت قصير من وصول دومينيك بوديس في شباط/فبراير الماضي الى رئاسة المعهد، وتمكنه خلال وقت قصير جدا من التوصل إلى اعادة التوازن الى الموازنة المالية، لكن يبدو ان مهمة الرئيس الجديد لن تكون سهلة كما تبدو من الخارج، أو هي على الأقل لن تقتصر على اعادة تقويم الموقف المالي، الذي يعد احد البنود المطروحة على جدول الاعمال الحافل، بل ستكون متركزة اكثر على إحداث نقلة نوعية في طبيعة عمل المعهد، تنقله نحو آفاق جديدة.

وصل بوديس الى منصبه وفي الاجواء تخيم سحابة كبيرة من الشائعات، وكلها تتعلق بالوضع الداخلي للمعهد، والمستقبل الذي ينتظره. ومنذ فترة يجري الحديث في بعض الاوساط العربية والفرنسية، عن توجه لدى السلطات الفرنسية لفك الشراكة التي قام المعهد على اساسها، والقائمة على تقاسم الاعباء المالية، بحيث تتحمل فرنسا نسبة 60 في المائة من التكاليف. وتقول الاحاديث المتداولة في بعض الاوساط ان فرنسا قد تتخذ قرارات لا ترضي الجانب العربي، الذي تراجعت قيمة التزاماته المالية حسب ما جاء في مؤتمر صحافي عقده بوديس مؤخرا الى نسبة 10 في المائة. وهناك من يعتقد بأن فرنسا سوف تقوم بتغيير الطابع الراهن للمعهد، وتعطيه صبغة اخرى بحيث تلغي جانبه العربي، وتستعيض عنه ببعد آخر اسلامي فرنسي، أو متوسطي فرنسي يتم ادماج “إسرائيل” في عضويته. ويخمن البعض ان الصيغة المثلى اليوم هي انشاء معهد اوروبي مع العالم الاسلامي، او مع دول حوض البحر الابيض المتوسط، بدلا من حصر القضية بين فرنسا والعرب.

وبغض النظر عن الخيارات المطروحة التي تبقى حتى الآن نسجا على منوال الازمة التي يعيشها المعهد، فإن كافة التصورات تنطلق من مسألة صارت شبه بديهية وهي فشل الشراكة العربية الفرنسية. وقد لايكون التغيير بين عشية وضحاها لكنه صار على نار هادئة، ومهما كانت الصيغة النهائية، فإن العملية تحتاج الى قرار سياسي فرنسي من اعلى المستويات، اي من طرف رئيس الجمهورية، فالمعهد الذي كان مشروع الرئيس فاليري جيسكار ديستان، وقام الرئيس فرانسوا ميتران بتحقيقه، وعمل الرئيس جاك شيراك على تعزيزه، ها هو ينتظر موقفا تاريخيا من طرف الرئيس نيكولا ساركوزي.

إن الوقوف امام الوضع الصعب للمعهد يستدعي الاعتراف بجملة من الحقائق، حتى لاتختلط الامور ببعضها بعضاً، ولا يجحف أحد حق أحد :الأولى، هي ان أزمة المعهد لم تحصل فجأة، وهي ليست وليدة خسارة في البورصة، او انها ناجمة عن الارتفاع في اسعار النفط، بل هي محصلة لسلسلة من الاخطاء الادارية الفرنسية التي تراكمت على مدى سنوات، وأخطرها كان القرار الذي اتخذه الرئيس الاسبق للمعهد كامي كابانا، بوقف العمل بمبدأ المساهمة المالية العربية الدورية، والاستعاضة عنها بمبلغ مالي مقطوع يتم تجميده، واستخدام فوائده لتغطية النفقات. وحين تبين بعد عدة سنوات عدم قدرة هذا الاجراء على تلبية الاحتياجات، صارت كرة التقصير ترمى في مرمى العرب. والحقيقة الثانية هي، ان الازمة لا يمكن حصرها فقط بالجانب المالي مثلما يريد البعض. إن المال ليس سوى الأكمة التي تخفي ما وراءها، أو هو رأس جبل الجليد العائم الذي يغطي تحته حكايات كثيرة، لا يريد احد من الذين تعاقبوا على ادارة هذه المؤسسة في السنوات الأخيرة، أن يدعها تخرج الى العلن، وبالتالي يمكن القول من دون ادنى شعور بالحرج، إن المشكلة تتجاوز المال الى العقلية التي يدار بها هذا المعهد من طرفيه الفرنسي والعربي، وعلى من يمتلك الشجاعة الكافية ان يفتح ملفات العقدين الماضيين، ليقف على حصيلة عمل كل من توالى على المناصب العليا (الرئيس الفرنسي، والمدير العربي، ومديرو الاقسام)، ودور ومسؤولية هؤلاء المباشرة عن تراجع اشعاع المعهد، الذي عششت فيه البيروقراطية وعدم الشفافية منذ البداية، وظلت تحتل حتى يومنا هذا مساحة كبيرة على حساب الخلق والاشعاع والوضوح، ولهذا صارت نشاطات المعهد في الآونة الاخيرة روتينية، تقتصر على معارض، ندوات، ومهرجانات، وكفى.

سارت الامور طيلة الفترة الماضية على هذا النحو، وجرى غض الطرف عن التقصير الاداري والثقافي، وانعدام الكفاءة والخبرة، وتفشي المحسوبية، وتغليب الاعتبارات السياسية على الثقافية والمهنية. وليس سرا أن احد المديرين العرب اعترف مرة بأنه لم يقرأ قصيدة لشاعر مثل محمود درويش. هل يجب ان نغفر لمديرآخر أقر بأن ثقافته عن الرواية العربية تقف عند حدود “يوميات نائب في الارياف”، التي كانت تدرس في المدارس الابتدائية في مصر؟هل كان يجب اطلاق يد بعض المديرين الابديين من الصف الثاني، لكي يكيّفوا نشاطات المعهد حسب مصالحهم الخاصة وعلاقاتهم الزبونية، فحول بعضهم القسم الخاص به الى مزرعة، ومنصة للعمل لحسابه الشخصي؟

منذ فترة ليست قصيرة يسود الانطباع بأن ثمة شيئاً غير طبيعي يجري في المعهد، هناك انطباع قوي من الخارج، بأن قسما عاطلا عن العمل في عقل وضمير وقلب هذا المبنى الجميل الرابض على ضفاف نهر السين، الذي جرى التعويل عليه ليكون منارة ثقافية تعكس صورة مشرقة عن العالم العربي، وخصوصا في العقد الحالي الذي شهد الكثير من الدعوات، التي تبشر بضرورة قيام نظام تراتبي بين الثقافات، وتنادي بصدام وصراع الحضارات.

رغم جدارة هذا المعهد والاهتمام الذي يلقاه عربيا وفرنسيا، فإن الملاحظ عليه في السنوات الاخيرة، هو انه بدأ دورة من التراجع والهبوط، تمثلت على نحو ملحوظ في الاستغناء عن الكثير من الفعاليات والنشاطات، وبدأت عملية تسريح لبعض الموظفين، ترافقت مع حركة اضرابات. ورغم ان مشاكل المعهد لا تحصى لم تجد الادارة سببا تعلق عليه حصاد الفشل سوى المال، وعلى اعتبار ان فرنسا ملتزمة بتسديد حصتها وأكثر، فلا ضير من ان ترمي مسؤولية التعثر على ظهر العرب. ولو لم يتم الكشف عن الفضيحة الخاصة بمدير المتحف في المعهد ابراهيم العلوي، لكان تم اختصار كافة المشاكل بالجانب المالي، ولقال قائل إن المعهد لا غبار عليه، وهو يعمل مثل ساعة سويسرية ولا ينقصه سوى دفع رواتب الجيش الكبير من الاداريين، الذين صاروا عالة على المعهد والثقافة العربية في نفس الوقت، لكن لحسن الحظ ان فضيحة العلوي جاءت في هذا الظرف، ورغم ان تهمة سوء التصرف الموجهة اليه سقطت وتم العثور على جميع القطع الفنية، فإن ذلك يكشف عن خلل كبير في الهرم الاداري، الذي يتولى توجيه هذه المؤسسة، وعن سوء تنظيم لاحدود له. فهل يعقل ان المتحف الذي يعد احد كنوز المعهد يعاني من خلل اداري بهذا الحجم، اي ان موجوداته لم يتم حتى جردها، في حين ان الادارة لا تكف عن مناشدة العرب التبرع من اجل اعادة تأهيله، وكانت كل من السعودية والكويت تقدمت بهبة مليون يورو لهذا الغرض.

صحيح ان الحجة المالية هي اسهل اسباب العاجزين والبيروقراطيين الفاسدين، لتفسير تراجع نشاط المعهد في الاعوام الاخيرة، ولكن مع ذلك تقتضي الامانة الاعتراف بأن قسطا من الازمة يرجع الى عجز مزمن في الموازنة السنوية، يعود في جانب منه الى عدم تقدير بعض الدول العربية ان رسالة المعهد لا توزن بمال، ولكن هذا يجب ألا يغطي على ان الجانب الآخر سببه تجاوزات واختلالات يفسرها الكثير من المراقبين بالبيروقراطية، وغياب المحاسبة، و تحول المعهد الى مركز حكومي يعج بالموظفين والمديرين والمستشارين الذي لايستشارون، هذا بالاضافة الى الفساد والمحسوبية.

يعد بوديس الرئيس الثالث للمعهد في غضون اقل من خمس سنوات، وهو احتل موقعه هذا في فبراير/شباط الماضي خلفا للرئيس السابق ايف غينا الذي عينه الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في رئاسة المعهد من منطلق الصداقة فقط، ومنذ تاريخ تسلم هذا الرجل الذي تجاوز الثمانين مهامه سنة ،2005 بدأ المعهد رحلة الهبوط، على اثر الاجراءات التقشفية التي اقدم عليها لسد الفجوة الكائنة في الموازنة العامة، وهنا أخذت تتكشف على نحو فاقع علل المراحل السابقة، التي كانت تخفيها دوشة النشاطات. وقد حاول بوديس منذ وصوله ان يعيد الامور الى نصابها، فقام بسلسلة من الاجراءات التي تهدف الى اعادة اطلاق الماكينة من جديد.

خلاصة القول إن المشكلة المالية واحدة من مشاكل المعهد، وليست الوحيدة، ولن يستقيم الأمر ويعود المعهد لاشعاعه السابق، إلا إذا بدأ عملية اصلاح شاملة تستهدف قبل كل شيء تفكيك مراكز البيروقراطية، فليس بالمال وحده يزدهر العمل الثقافي.

وهناك ملاحظة اخيرة واساسية تتعلق بالجانب العربي، فالدور العربي في المعهد لم يكن غائبا في تاريخه مثلما هو عليه اليوم، الى حد انه لا حضور له لا في السياسات المالية ولا الثقافية، وهذا التقاعس هو الذي يوفر افضل غطاء للتخلي عن البعد العربي للمعهد، وهو نتيجة طبيعية لتغليب العرب في كل مرة خلال اختيار مدير المعهد خيار الولاء على الكفاءة.

عن نشرة دار الخليج.