كثيرون لاحظوا، بحقّ طبعاً، ان «فتح الإسلام» تخطف حركة «فتح»، ومن ثمّ المسألة الفلسطينيّة وتراثها وتخطف، في الوقت عينه، الإسلام. لكنْ ما دام للكلام دلالاته، باتت للتسميات معانيها. لهذا لم يعد كافيا تسجيل حقيقة الخطف والتزوير ثم الاكتفاء بالقول إن الإسلام وفلسطين «براء» من إساءة استخدامهما.

فالمطلوب منع اساءة الاستخدام، للإسلام كما لفلسطين، في السياسة، ودائماً. وهي اساءة استخدام ليست «فتح الإسلام» أوّل من يقدم عليها، وقد لا تكون آخر من يفعل.

فهناك عديد الأنظمة والمنظّمات والأحزاب التي امتهنت ذلك قبل أن يتصدّى للمهمّة شاكر العبسي والمتحلّقون حوله. وكلّ من هؤلاء طبّق الخطف والتزوير بطريقته، علماً أن بعضهم غير دينيّ بالمرّة، وبعضهم لا تربطه غير صلة لفظيّة بفلسطين. أما الانحطاط بإساءة الاستخدام هذه، وفي غير بلد، فوصل الى حد غدا معه الخطف والقتل، وفي الجزائر ثم في العراق، وقطع الرؤوس، أعمالاً تندرج في الانتصار للإسلام أو لفلسطين!

وتكاثر الظاهرة وتعدد مسارحها انما يصدران، بطبيعة الحال، عن أسباب كثيرة في عدادها الموقع العاطفيّ الذي يحتلّه الإسلام وفلسطين لدى قطاعات سكانيّة واسعة، وأحوال الفقر والإحباط وانتشار الأميّة وشعور الفرد بأن فرديّته مهانة وممعوسة بما يسهّل جرّه الى التسليم والعنف. لكن السبب الأهم يبقى ضعف الشرعيّة السياسيّة والدستوريّة لدى القوى الفاعلة، يتساوى في ذلك الحاكم والمحكوم، السلطة والحزب المعارض لها أو المنشق عنها. ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن ما يُسمّى سياسة في الحياة العربيّة انما هو لعبة دمويّة بين أطراف تفتقر كلّها، ولو على نحو متفاوت، الى شرعيّة سياسيّة.

وانما بسبب الضعف التكوينيّ هذا يسهل اللجوء الى الإسلام وفلسطين لتعويض الافتقار الى الشرعيّة تلك، ولإغراق ذاك الافتقار في الديماغوجيا، كما لردم العجز عن ربط السياسة بمصادرها ومرتكزاتها الوطنيّة المفترضة. فكلما قلّت الإجابات المتوافرة في جُعبنا عن الأسئلة الملحّة التي يطرحها العيش في الراهن، والتي تتّصل بتوطيد دولة ما ومجتمع ما على أسس قابلة للحياة، زاد الميل الى ترحيل السياسة صوب الدين وما ينجرّ عنه من تراث وماضٍ ومنظومات طقسيّة، أو الى مرادفة السياسة مع مقاتلة اسرائيل أو مقاومة أميركا ومعها، طبعاً، اليهود والصليبيّون وأعداء لا تنضب عداواتهم.

والحال ان قطع الطريق على الظاهرة تلك يبقى مستحيلاً من دون إنشاء خطوط كثيفة عازلة، تعينها على أداء دورها هذا مناهج التعليم وتوجّهات الإعلام ولغة التداول السياسيّ والثقافيّ والدينيّ سواء بسواء.

فالإسلام فوق السياسة مُـنزّه عنها، وفلسطين تقع ما وراء السياسات الوطنيّة لكلّ واحد من البلدان المعنيّة، ولو تقاطعت معها عند هذه المحطّة أو تلك. أما عكس ذلك فلا يتأدّى عنه مجرّد الاساءة الى فلسطين والإسلام، بل أيضاً الاساءة الى السياسة نفسها التي تغدو، والحال هذه، مادّة لتلاعب رخيص ولمزاودات أرخص يستخدمها الاستبداد العسكريّ كما تستخدمها قوى الاحتراب الأهليّ.

فالحاكم لا يسقط لأنه صالحَ اسرائيل أو لأنه «عدوّ الله»، تماماً كما لا يُدعم ويُؤيّد لأنه قاتل اسرائيل أو لأنه «حبيب الله». ذاك ان ما يقرّر صلاح الحاكم سجلّه في السياسة تحديداً، أي في الأمن والاقتصاد والصحّة والتعليم والتعمير وكسب مزيد من الأصدقاء للبلد الذي يحكمه وتجنيبه الحروب والكوارث.

وهذا، في أغلب الظنّ، ما يضمن تجفيف ماء الجماعات التي تسيء استخدام الإسلام وفلسطين، معاً في معظم الأحيان. إلاّ أنها تتحوّل بين ليلة وضحاها، بفعل قدرة السطو على الاسلام وفلسطين، مصحوبة بالوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ العام، الى قوى يُعتد ببأسها ويُحسب لها حساب كما لو أنها ذات رصيد تاريخيّ ضخم وهائل!

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)