غالب الأحزاب، وخاصة في بلادنا، حتى لو أنها لم تمتلك فلسفة ما، أو نظرة ما إلى مجمل مسائل الحياة والكون، فإنها إما أن تدعي امتلاكها لتلك الفلسفة أو النظرة، أو على الأقل تتمنى ذلك.
فتتحدث عقائدها ابتداءً من علم الاجتماع، مروراً بالاقتصاد، وربما تعريجاً على علم الجمال، وربما ليس انتهاءً بتصورٍ عن الخلق وابتداء الكون ونشوء الحياة وتطور الإنسان على هذه الأرض.
+
وبالتالي فإن هذا يفترض أن تكون مؤسسات تلك الأحزاب، ابتداءً من دوائرها العليا، نزولاً إلى دوائرها الأدنى، وباختصاصاتها المتنوعة، مسؤولة عن معالجة أو - على الأقل - إبداء الرأي في شؤون المجتمع والدولة، والعمل باجتهاد لإثبات صواب ومصداقية تلك الفلسفة/ النظرة في تعاطيها مع واقع المجتمع والدولة، وذلك من أجل المشاركة - في الحد الأدنى - في رسم مستقبل آمن ومزدهر لهما، كما يفترض أن تكون وظيفة الأحزاب.

ويفترض بالتالي أن يتجلى الحرص في تلك الدوائر أكثر، كلّما علت مسؤولية موظفيها أكثر. ويفترض - كونهم مسؤولين عن نظرة شاملة لشؤون الحياة - أن يكونوا أصحاب ثقافة واسعة عميقة، تتناسب مع عمق واتساع تلك النظرة، وأصحاب قدرة على النظر البعيد، ومحاكمة ما يحدث برؤية شمولية لا تقلقها التوترات الآنية، ولا يشغلها شيطان التفاصيل الكثيرة... وبالتالي تمارس النظر إلى المستقبل بحرص متناهٍ، وبإدراك واعٍ لمعنى التاريخ ولمساره وصيرورته، لأن المستقبل هو مستقبل الشعب والوطن، فيفترض ألا يشغلهم - بأية درجة كانت - مستقبلهم الشخصي عن مستقبل الأمة والوطن!
ألا يبدو حتى الآن كأنني أتحدث في نومي، ألا يبدو أنني ببضع أسطر استغرقت في حلم متمادٍ على حدود الوهم؟
كيف تدار الأحزاب؟
وهل هي أقرب إلى المؤسسات؟ أم إلى العشائر؟
ما الذي أنجزته منذ الاستقلال؟
وإن أنجزت: فما مصير تلك الإنجازات اليوم؟
هل هي في صحة جيدة ومعافاة؟ أم أن الأمراض تنخرها نخراً؟
أية أمراض سارية وخبيثة تجتاح بنيتها من أسفل إلى أعلى وبالعكس؟
ما هو واقعها بدون تزييف؟ وهل للمستقبل ومخاطره أي حسابات في سجلاتها؟
مستقبل مَنْ يشغِل مديروها؟
أية مسائل يومية يتعاطون معها؟ وأية هموم تثقل ساعات يومهم؟
وما الذي أوصلها إلى ما هي عليه؟
هل هناك ما يهدد وجودها ويهدد مستقبل الأمة والوطن؟
والأهم من ذلك كله:
هل هذه الأحزاب صالحة لحمل مشروع نهضوي؟
وإذا لم تكن صالحة، هل هي فعلاً قابلة للإصلاح؟
وإذا لم تكن قابلة للإصلاح، وهذه قناعتنا، ألا يقتضي الأمر تأسيساً جديداً، لكن المهم أن يكون حديثاً؟

اليوم، في غالب أحزابنا، ومن دوائرها العليا حتى الدنيا، يحشر مديرو دوائر الأحزاب تلك الفلسفة/ النظرة، في ثقوب - إذا قورنت بتلك النظرة - لبدت أضيق من ثقب الإبرة، ابتداءً من ثقب الوزارة (والتوزير)، وربما ليس انتهاءً بثقب (مختار) الحي و(التمختر).
تدار غالبية الأحزاب، إدارة وثقافة وسياسة ومالاً، نشاطات واحتفالات ومهرجانات ومؤتمرات، خطاباً عاماً وعلاقات عامة وخاصة، على قدر الطموح (الثقبي) للمسؤول الحزبي الجزيل الاحترام.
لاشك أن أي حزب هو حزب سياسي بشكل من الأشكال، وإذا كان الهدف الأعلى للسياسة هو تحقيق المقاصد العليا لمجتمع الأمة، وفي جميع مناحي حياته، فيكون الفرق بين وظيفة السياسة وبين الوظيفة السياسية، فرقاً خطيراً جداً، هو بصورة من الصور، كالفرق بين وظيفة الدماغ وبين وظيفة المعدة أو أي عضوٍ آخر من أعضاء الجسد.

إن بساطة المثال لا يجب أن تقلل من تلك الخطورة، فإن إدارة المؤسسة الحزبية هو إدارة للسياسة، إدارة للوظائف السياسية مجتمعة، وإن الخطورة تكمن في عكس العملية، الخطورة هي أن يتولىّ الطموح إلى الوظيفة السياسية المحددة، إدارة وظيفة المؤسسة الحزبية/ أي إدارة وظيفة السياسة.

وعكس العملية، تضييق للأفق الرحب، معسٌ لزاوية الرؤيا، هو أفسد أنواع تزوير العمل العام واستغلاله، هو أفسد أنواع الفساد، لأنه فساد عام.

وحين تُبتلى الأحزاب بهذا التزوير، فإن أهم آلية إنتاج في المجتمع، تصبح أيضاً (مقلوبة)، فبدل أن يكون الأداء السياسي للدولة - المؤسسة الكبرى في المجتمع - هو ناتج الحراك السياسي لمجموع الأحزاب، هو ناتج تفاعل أداء وظيفة السياسة لكل حزب مع بقية الأحزاب، يصبح الأمر مقلوباً، وتصبح الأحزاب - بنية وسلوكاً - هي ناتج لسياسة الدولة في إشغالها للوظائف السياسية.
إن الأسئلة الآنفة الذكر، إن كان من الهام جداً طرحها، فإن الأهم أكثر، الإجابة عليها وقبل فوات الأوان، من الهام إنقاذ وظيفة السياسة، إنقاذ إدارات الأحزاب من براثن الوظيفة السياسية، إن المصالح العليا البعيدة المدى للدولة والمجتمع، أية دولة ونظام وأي مجتمع، يقتضي تصويب تلك العلاقة (المقلوبة).