في فلسطين تنافس الفصيلان المتنازعان على تبني وتقمص مصطلحات وتعابير الدول: رئيس، وزير، أجهزة أمنية، VIP (اترجمها بتصرف very important Palestinian)، وأخيرا وكأننا نسير بخطى واثقة نحو تشكيل كاريكاتير عن أنفسنا «حكومة طوارئ»، وإصدار «مراسيم» و «حل حكومة بموجب الدستور» وإجراء دستوري» و «أجراء غير دستوري»، ويبدو أن المتحدثين يصدقون أنفسهم. لم نعد مجرد «حكومة» تحت احتلال، بل تقدمنا إلى «حكومة طوارئ» تحت احتلال، وبقي فقط أن نقيم حكومة احتلال تحت الاحتلال. ولم لا؟ فنحن لسنا في حالة صراع تحرري مع إسرائيل، بل في حالة تنافس على الألقاب والتسميات، وعاشت الرمزية والرموز!! هل ستمون «حكومة الطوارئ» على أصدقائها الأسخياء في الغرب لوقف بناء الجدار؟ أو لتطبيق قرارات لاهاي، أم أن امتحان نجاحها سيكون جلب المال من أميركا وأتباعها؟ و»الحكومة» على فكرة لا تبدو كـ «حكومة طوارئ» بل كحكومة جمعيات غير حكومية. (سؤال جديد يطرح حول ناشطي هذه الجمعيات، هل مدنيتها ولاحكوميتها تعني أنها مؤلفة من سياسيين محبطين؟ وإلا فكيف يتم الانتقال مباشرة من النشاط في المجتمع المدني ليس إلى مجرد عضوية في حكومة، بل في حكومة طوارئ؟).
كشفت أميركا ومن مشى على هديها في الغرب عن طبيعة مطلبها بدمقرطة دول المنطقة بعد أن لم تكتف برفض نتائج انتخابات جرت في ظل احتلال في فلسطين، بل أصرت على فرض حصار يشجع أطرافاً محلية على رفض النتائج، أي على رفض الديمقراطية إذا لم تكن في صالحها. وهو حصار يشجع على الاقتتال ويندرج ضمن نهج يبدو تطبيقاً مدرسياً سياسياً للنظرية السلوكية ولنظرية ردود الفعل المشروطة بالمؤثرات الخارجية، فالحصار عقاب على فعل مكروه والإغراء المالي مكافأة على فعل آخر مرغوب.
ونشأ بعد اتفاق مكة بين «فتح» و «حماس» لتشكيل «حكومة» وحدة، وضع يفسح مجالاً لإستراتيجية موحدة تشمل إلى جانب «حكومة» الوحدة أمراً أكثر أهمية من المحاصصة، الحكومية الثنائية بين «فتح» و «حماس»، هو إعادة بناء منظمة التحرير. وقد تم تجاهل ذلك وإهماله. مع أنه وعاء الوحدة السياسي والوطني وليس المحاصصة في «حكومة» إشكالية. ولم يكن اتفاق مكة ممكنا لولا تحييد صراع المحاور العربية في شأن الحوار الفلسطيني، وبالعكس تبارزت المحاور على ادعاء أبوة اتفاق مكة. ولذلك فلست متفقا مع من يستسهلون إلقاء تبعة ما يجري في غزة على تصفية الحساب بين المحاور العربية مرة أخرى، فرغم اني اتفق على دور صراعها الهدام في ألف قضية إلا أن هذا لا يصح بالنسبة الى اتفاق مكة.
عارضت كل من أميركا وإسرائيل هذا الاتفاق واعتبرته نكسة لقوى في السلطة راهنت عليها واستثمرت فيها طويلاً ضد ياسر عرفات. وقد قبلت هذه القوى كما يبدو الاتفاق ليس لأنها وافقت عليه، بل لأن غيرها في السلطة نفسها قدّر عشية الاتفاق أن مواجهة مع «حماس» في غزة سوف تنتهي لصالح «حماس». ولذلك اعتبرت اتفاق مكة مجرد مرحلة لتجنب مواجهة مع «حماس» نحو مواجهة قادمة إن عاجلاً أم آجلاً، فهذه القوى تؤمن أن التسوية مع إسرائيل ممكنة إذا تنازل المفاوض الفلسطيني عما رفضه ياسر عرفات في كامب ديفيد. ولذلك لا بد من مواجهة «حماس»، هذا عدا عن عدم تسليمها بفقدان جزء من امتيازاتها.
ورغم معارضة الاتفاق إلا أن أميركا اعتبرت مقاطعة إسرائيل مؤسسة الرئاسة بعد اتفاق مكة تفشلها وتدفع بحركة «فتح» إلى أحضان حكومة الوحدة. ولذلك لم تر ضررا من إجراء مشاورات نظرية كما سماها أولمرت حول الحل الدائم يتقبل من خلالها الناس بالتعويد أفكارا معينة مثل التنازل «نظرياً» عن حق العودة وعن القدس كعاصمة فلسطينية، إضافة لقضايا حقوقية تقدم كمطالب لإسرائيل، كأن الجميع أصبحوا نواباً يمثلون رعايا الإمبراطورية الإسرائيلية في «الأقاليم». ولذلك فرغم اتفاق مكة، إلا أنه في يوم ذكرى النكبة التاسعة والخمسين ذاته، كان فلسطيني يطلق النار على فلسطيني في غزة.
وإبان سعي حركة «حماس» لإجهاض سيناريوهات الإعداد لضربها ومواجهتها من قبل أطراف لم تقبل اتفاق مكة وحاولت أن تفشله، تجاوز ميدانيو «حماس» في ممارساتهم العنيفة والانتقامية كل ما يمكن لقيادتهم تبريره. وهناك فعلاً ممارسات لا يمكن أن تبرر وتستحق الإدانة فقط. وقد فوجئ الناس بممارسات إجرامية أمام الكاميرات جرت في غزة وعلل البعض موقفه المؤيد لحل حكومة الوحدة وإقامة حكومة طوارئ باستفظاع ما حدث، وهو فظيع فعلا. ثم ووجهت جرائم «كتائب القسام» هذه بجرائم ارتكبتها «كتائب الأقصى» لا تقل عنفاً ضد نشطاء وحتى بيوت معتلقين من «حماس»، في مناطق لا تستطيع فيها «حماس» أن تحمل السلاح، ونشطاؤها إما سجناء أو مطلوبون لإسرائيل.
هناك أوساط علمانية عربية باتت تعتبر إسرائيل نفسها أقرب إليها من أصوليين عرب، لأن الصراع بات صراعاً على السلطة في دولها. وهذا سلوك مفهوم ميكافيلياً، ولكن ما لا افهمه هو كيف يكون المرء علمانيا ووطنيا فلسطينيا ويقف حتى في عاطفته ضد حركة الشعب المضطهَد، حتى لو كان ذلك يعني الوقوف مع إجراءات الاحتلال أو الرهان عليها؟
نحن لا نؤيد وندعم حق الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال لأنه خيار الأخيار ضد الأشرار، ولا لأن الشعب الفلسطيني طيب ورومانسي ويمكن التباهي بحسن سلوكه أمام الأجانب أو أمام الذات، بل لأنه مضطّهَد وأرضه محتلة. وصراعه ضد الاحتلال هو صراع شعب فقد وطنه، ضد الاحتلال، ضد المستعمرين، وليس صراع الأخيار ضد الاشرار. وعلى كل حال قلما يستفظع هؤلاء ممارسات أفظع يقوم بها علمانيون كأنظمة أو كتنظيمات.
وإذا جرى تفسير عمل ميدانيي «حماس» بالانقلابي، فإن «المراسيم» التي تلته تشكل انقلابا فعليا وشاملا على نتائج الانتخابات. والمصيبة أن القوى التي قطعت مع «حماس» تماماً بعد صدور «المراسيم»، ودفعت باتجاه التصعيد، وهي قوى تختفي وتنزوي غير راضية في أيام الوحدة وتزدهر في ايام الشقاق، باتت تراهن على تشديد الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة ورفعه عن الضفة في إطار مقارنة فلسطينية ممكنة بين نموذج ناجح في تقديم الخدمات للسكان وتلقي الدعم المالي من الخارج، ونموذج محاصر وفاشل في غزة، يتميز بأنه يرفض الشروط الإسرائيلية ويدفع ثمن ذلك.
ولسبب ما كتب دنيس روس عن هذا النموذج كسيناريو ممكن استمع له من قياديين من الصف الثاني في «فتح» في رام الله، كما يزعم، وسمع عنه في القدس الغربية أيضاً ( «واشنطن بوست»، 5 حزيران الجاري). وحتى روس المتواطئ تماماً مع إسرائيل لإفشال المفاوضات مع عرفات وسورية في حينه أبدى تخوفه من هذا السيناريو.
إضافة إلى تفريغ القضية الفلسطينية من أي محتوى غير تنافس بين كيانين أحدهما تعيس في حصاره والآخر سعيد في حصاره، يقود هذا السيناريو طبعا إلى كوابيس من نوع تجويع غزة وإغراق السلطة في الضفة بسخاء غير بريء، مفسد وفاسد، ويشكل أساسا لفساد جديد، وفقدان عنوان يمثل كل الشعب الفلسطيني، وتصاعد العمليات ضد إسرائيل من منطلق «عليّ وعلى أعدائي يا رب»، والرب وحده يفسر من هم «أعدائي» كما يشاء طبعاً!
أين حق العودة والقدس وفلسطين وقضية فلسطين من كل هذا؟ الله أعلم. وليصبح جميع اللاجئين الفلسطينيين شاكر العبسي. وليتحول حق العودة إلى حق العودة إلى المخيم بعد نهاية الاشتباكات، كما في نهر البارد. أما سكان القدس فليبحثوا عمن يمثلهم. ألم ينتخب عرب الداخل من أعضاء حزب العمل باراك في الانتخابات التمهيدية للحزب، حتى قال أحد مساعديه: خسارة أننا لم نقتل عربا أكثر ربما كنا حصلنا على أصوات عربية أكثر؟
هذا انهيار معنوي وأخلاقي لا يمكن تبريره بأي براغماتية سياسية. والمسألة حاليا مسألة إرادات، فإما أن يتوجه الفلسطينيون، بمن فيهم «فتح» و «حماس»، نحو الوحدة في إطار منظمة التحرير وغيرها من المؤسسات، وإما الانهيار الشامل إلى جانب السيناريوهات أعلاه.
لا يمكن فهم غزة كمجرد منطقة محتلة، لا حجماً ولا تاريخاً ولا تركيباً سكانياً. ولا يمكن فهم الصراع الجاري فيها كمجرد صراع بين فصائل على النفوذ. هذا كلام غير واقعي وميتافيزيقي بمجمله. فغزة هي مخيم لاجئين كبير جداً. والتخلي عن هوية حركة التحرر الوطني الذي رافقه اعتبار الفلسطينيين طرفا في «صراع» إسرائيلي - فلسطيني، واعتبار القضية الفلسطينية كقضية بدأت عام 1967، من دون نكبة فلسطين المتمثلة بقضية اللاجئين، رافقه أيضا التخلي عن أخلاقيات ومعنويات حركة التحرر الوطني والتي لا يمكن أن تعني في مناطق مثل غزة ومخيمات لبنان إلا حق العودة. وقد جعل التخلي عن هذه المعاني جزءاً كبيرا من الناس غير المستفيدين، بل المتضررين من التسوية ومما يسمى بعملية السلام، يفقدون المعنى مع ما يرافق ذلك من انحلال ملحوظ لدى قيادات باتت تسعى لترتيب وضعها وعائلاتها مع أميركا وإسرائيل مباشرة من جهة، يقابله انتشار الأصولية لدى غير المستفيدين من الجهة الأخرى.
إن ما يجري من انحلال وأصوليات متقابلة هو من مظاهر فقدان حركة التحرر الوطني من دون ان تصبح دولة، ومن مظاهر الصراع داخل معسكر اعتقال محاصر.
ما يجري لغزة والضفة ولفلسطينيي بغداد ونهر البارد هو دعوة لإعادة التفكير بالمسار كله. هذا المسار الذي أوصل البعض حتى تخوم تنظيم «القاعدة» والبعض الآخر إلى مقولة «المهم أن نتعاون جميعا (بمن فينا إسرائيل) ضد حماس».
لقد تم منذ اتفاقيات أوسلو تغليف ما تبقى من الشعب الفلسطيني في غيتوات خلف جدران على أرضهم وفي وطنهم، كأنهم جسم غريب ترفضه إسرائيل فتفرز غشاء يغلفه. الجسم الغريب هو الذي يرفض الجسم الأصيل، وكأن الفلسطينيين في وعي الناس هم جماعة، أقلية سكانية تطالب بحقوقها مثل حرية الحركة وحق البيع والشراء وتلقي المعونات... وبموجب ذلك تفصل الآن غزة عن الضفة، فنظام الأخيرة يستحق هذه «الحقوق»، أما الأولى فلا. وكلاهما رعايا عند إسرائيل. وفي المقابل تنهار حالة اللجوء والشتات الفلسطيني إلى ما نراه في العراق ولبنان من دون تنظيم يمثلها ويرعاها.
لقد شجع مؤيدو التسوية من فلسطينيين وغير فلسطينيين على اعتماد السلطة ممثلا للشعب الفلسطيني والاعتراف بها بدلا عن المنظمة عمليا، وعدم الالتفات إلى مؤسسات المنظمة بما في ذلك عندما كان الفصيل نفسه، أي حركة «فتح»، يسيطر على المؤسستين.
ووقع استثناء رث وقصير المدى عندما نفس الفصيل المركزي نفسه إلى منظمة التحرير لمقارعة السلطة المنتخبة بعد انتصار «حماس» فأحيا ألقاب ومؤسسات المنظمة ضد «الحكومة» الفلسطينية المنتخبة. وهمشت هذه المحاولة منظمة التحرير أكثر مما أحيتها، إذ حولتها ولأشهر قليلة فقط إلى أداة في الصراع على السلطة، ما لبثت أن نحيت جانبا مرة أخرى.
لا غنى حالياً عن الوساطة العربية لمنع تحقيق السيناريوهات أعلاه، وذلك بتوحيد كل الفصائل والقوى في إطار منظمة التحرير وحكومة الوحدة الوطنية.
عدم اتخاذ مثل هذه القرارات والإصرار على كيانين سوف يؤديان من المراوحة على حافة الهاوية إلى السقوط فيها. وهذا بالضبط ما يعتبره أولمرت فرصة تاريخية على إسرائيل ألا تفوّتها.