زيارة جان كلود كوسرون إلى دمشق شكلت رسالة واضحة ذات دلالات وإن كانت لم ولا تشكل حلا للمشكلات العالقة بين باريس ودمشق. هذه المشكلات لا تحل بالتأكيد بزيارة.

لكن زيارة كوسرون شهدت وتشهدت الكثير من التأويلات والتفسيرات في كل من باريس وواشنطن وكذلك في دمشق وبيروت.

ففي باريس بدا واضحا أن هذه الخطوة لم ترق للعديد من مراكز القوى في السلطة الفرنسية. وتحاول مراكز القوى هذه العمل على خطين الأول التخفيف من أهميتها وحتى من أهمية الرجل والثاني افشال أي خطوة متقدمة بهذا الاتجاه.

هذا الوضع في الداخل الفرنسي وفي أروقة السلطة يدفع بسرعة نحو صراع بين مراكز القوى هذه وهو صراع ليس من السهل حسمه في ظل معادلات القوى الدولية الراهنة وارتباط هذه القوى بهذه المعادلات، خلافا لما يعتقد البعض باستقلاليتها. خاصة أن الرئيس ساركوزي منفتح على كل الاحتمالات ولم يحسم بعد سياسته نهائيا في هذا المجال، حيث انه هو نفسه أفسح في المجال لهذا الصراع الداخلي العميق في النادي السياسي الفرنسي. صراع يعلم ساركوزي جيدا أنه سيقود حتما إلى تشلع البنى السياسية القائمة وهو ما يريده وهو ما يسمح له بضبط ايقاع الاصلاحات الداخلية التي يسعى لها.

وقد يتمكن المراقب من تحليل المشهد الفرنسي اثر زيارة كوسران لدمشق ليشاهد مدى تغلغل اللوبيات الصهيونية والأمريكية ومن هم رموزها في مراكز القرار بباريس وامتداداتها على الساحة الدولية وهو أمر لم يعد سرا. بالمقابل يستطيع المراقب أن يحلل بدقة ظاهرة الغياب العربي الفعلي عن القرار رغم ادعاءات بعض العرب أن كلمتهم مسموعة في العاصمة الفرنسية وأن لهم في باريس أصدقاء. إلا إذا اعتبرنا أنها صداقة من طرف واحد.

والواضح من خلال المشهد الباريسي هذا أن الطرف الذي يعارض الانفتاح الفرنسي على دمشق برموزه المعروفة، طرف موحد الاتجاه والأهداف والآليات والمحركات. أما الطرف الذي يعارض هذا الانفتاح فهو موحد لجهة اعتبار الانفتاح ضرورة للهوية والعقيدة السياسية الفرنسية ولا يتناقض مع مصالح فرنسا، لكن بخلاف ذلك تتعدد الأهداف والخلفيات، وهو طرف ما زال خائفا أو بالأحرى مرتعبا من التخلي العربي ومن التناقضات العربية. وهو يراهن على بروز وعي عربي من خلال تعددية الأزمات في لبنان وفلسطين والعراق والسودان والصحراء الغربية وكيف تحولت هذه الجراح إلى منافذ للتدخلات الأجنبية الاستعمارية الجديدة حيث وجد المستعمر الجديد في كل بلد أدوات ينفذون مشيئته، بينما يقول الفرنسيون أنهم ليسوا جزءا من هذا المستعمر ولا مشاريعه. ولا يمكن أن يكونوا كذلك بعد التطورات الأخيرة في العقيدة السياسية الدولية لفرنسا.

وفي باريس أيضا بدت الزيارة وكأنها عنوان للخلاف الجديد بين "الادارة" الفرنسية والادارة الأمريكية. فبعد أن نجحت باريس في خرق الحصار الأمريكي على المشكلة اللبنانية في اجتماع سل سان كلو وبعد أن وعدتها باريس أن هذا الاجتماع سيكون اجتماعا يتيما، لطيما، اعتمدته رافعة لمشروعها التصالحي مع المنطقة العربية عبر البوابة السورية – اللبنانية وهو أمر تعتبره الادارة الأمريكية خطا أحمر وتصفية سياسية لحلفاء الولايات المتحدة في لبنان وسوريا وعلى رأسهم وليد جنبلاط وعبد الحليم خدام. وتعتبر الأوساط الفرنسية أن الغضب الأمريكي الدفين والصامت لا بد أن ينفجر في مكان ما بوجه باريس وأن باريس تنتظر ردا أمريكيا في مكان ما ربما يكون المغرب العربي وهو الحلقة الأضعف عربيا والأكثر حساسية لدى فرنسا. ويحاول الرئيس ساركوزي تصفيح هذه الخاصرة الهشة عبر زيارته الأخيرة لها.

كما تؤكد المصادر الفرنسية أن الانتقام الأمريكي المنتظر في حال نجاح المشروع التصالحي يمكن أن يكون أيضا في الداخل الفرنسي حيث ما زالت صورة المشروع السياسي الدولي للرئيس ساركوزي ضبابية ومبهمة.

بالمقابل تسرب الأوساط الفرنسية نفسها أن تداعيات هذا الحدث قد تطال دولا عربية دعمت المشروع التصالحي لفرنسا ولولا هذا الدعم لما تجرأت باريس على هذه الخطوة خاصة أن هذا الدعم كان رسالة عربية لطهران أيضا أي أنه يعني سقوط مشروع تأجيج الخلافات بين طهران وعدد من العواصم الخليجية، بما معناه قلب للطاولة الأمريكية في المنطقة برمتها.

بالطبع الأمريكيون لم يتوقعوا هذا الأمر من الرئيس ساركوزي، في هذا الوقت بالذات وهم الذين جندوا كل بيادقهم في فرنسا وأوروبا لإيصاله إلى السلطة وكل محازبي حلف شمال الأطلسي وقدمت له الرئيس السابق شيراك على طبق من فضة وأعملت تنكيلا وتشليعا باليسار الفرنسي واستعادت الأطلسيين من صفوفه أمثال ستروس كان وجاك لانغ وبالطبع برنار كوشنير، لكن الحسابات الأمريكية ليست دائما صحيحة حتى لا نقول أنها دائما ليست صحيحة.

فليس أمام الرئيس ساركوزي خيارات كثيرة ولم يترك له حلفاؤه الكثير منها وعليه أن يراهن على مصالح بلاده أولا لا مصالح " حلفائه " وباريس ليست «نيو» باريس كما يقال وليس في فرنسا مدينة تبدا بكلمة «نيو» الأمر، الذي يعرفه ساركوزي جيدا ولو كان نفسه «نيو» رئيس.

وإذا كانت الأوساط الفرنسية تعتقد أن الحرب السرية القائمة قد لا تكتمل فصولا، إلا أنهم يقولون أن اختيار جان كلو كوسرون لهذه المهمة وقبول رجل الدبلوماسية – الإستخباراتية الموازية بها يعطيها طابعا خاصا ويعني أنها قد تستمر طويلا ولن يكون فيها غالب ومغلوب وهو أمر تقبل به باريس وستضطر اإدارة المحافظين الجدد للولايات المتحدة القبول به وتسليمه ملفا للإدارة القادمة.

لكن أمام كل هذا الواقع يبدو أن الخاسر الأكبر هو من راهن على الولايات المتحدة في لبنان وفلسطين والعراق والسودان. والذين لم يعتبروا من عبر من سبقوهم في الرهان على نظام وكالات الاستخبارات الأمريكية وهوائياتها في العالم والتي لا يريد الرئيس ساركوزي أن يكون منهم.