عمل مدني

هل العمل التطوعي غاية أم وسيلة؟ وما مدى تلاؤم هذه الوسيلة مع ظروفنا المحلية؟ وما جدوى الارتكاز على العمل التطوعي في المجال التنموي؟ وما هي الفرو قات بين العمل التطوعي الفردي والمؤسساتي؟

التطوع في بعده الشخصي:

ليس لدينا أدنى شك في أن العمل التطوعي له فوائد في صقل مهارات الفرد وخبراته (من جهة)، وفي خلق روح من التعاضد بين أبناء المجتمع تشعر أفراد المجتمع بالإحساس بالانتماء. ورغم أننا ندعم أي توجه لتنمية هذا الحس الوطني والإنساني، فإننا نعتقد أن شعوب هذه المنطقة تعتبر خزاناً للأخلاق والمشاعر النبيلة، وهي تمارس بشكل يومي (أو شبه يومي) العمل التطوعي ببعده الشخصي، وذلك بدءاً بمساعدة مسن في الشارع العام، إلى مساعدة في تأمين مستلزمات الحياة الأساسية لبعض الفقراء، إلى مساعدة المرضى إلى متابعة بعض المعاملات في الدوائر الحكومية لبعض الأقارب والجيران، أو دفع الفواتير، وغير ذلك من مجالات العمل التي يقوم بها الفرد لغايات إنسانية، ولا يتوقع أي مردود مادي لها.

أين تقف حدود العمل التطوعي الفردي؟

أعتقد أن العمل التطوعي الفردي يقف عند حدود المسؤوليات والصلاحيات، فبالرغم من أن بعض الأفراد ربما يكون لديهم الرغبة (وربما القدرة) على تجاوز حدود العمل التطوعي للإطار المذكور سابقاً، إلا أن هذا الموضوع ربما كان من الصعب تنفيذه (محلياً على الأقل)، فعلى سبيل المثال، دعونا نتخيل مواطناً لاحظ أن شرطي المرور لا يقوم بدوره كما يجب، فهل يدخل في باب العمل التطوعي أن يحمل صفارة ويساهم في تنظيم المرور؟ وإن لاحظ مواطن أن موظفاً ما لا يقوم بتسيير معاملة ما، فهل يمكنه حمل الخاتم الحكومي، ومهر المعاملة به؟ بالطبع لا، وهذا الأمر سببه أن هناك العديد من المظاهر السلبية الناجمة عن وضع الصلاحيات بأيدي أفراد (لا يمتلكون الكفاءة المناسبة أو الحس بالمسؤولية)، وربما نشعر جميعاً بضرورة تقديم المساهمة، ولكن هنا العمل التطوعي (الفردي) ليس حلاً على الإطلاق.

ومن ناحية أخرى، فإن حدود العمل التطوعي تقف عند حدود الخبرات أيضاً، فتطوع فرد غير مختص لمعالجة مريض (رغم تقديرنا للاعتبارات الإنسانية)، وإعطاؤه وصفة طبية، هو أقرب لمحاولة القتل من محاولة المساعدة، وبالتالي فإن عدم تطوعه للمساعدة لا يعبر عن (ضعف الحس الإنساني والشعور بالمسؤولية)، بل ربما هو الشعور الأكيد بالمسؤولية.

التطوع من خلال مؤسسة:

قد يكون التطوع من خلال مؤسسة أكبر قدرة على توسيع إطار العمل التطوعي عن الإطار المذكور سابقاً، وذلك بسبب قدرة المؤسسة على وضع إطار أوسع لدورها وصلاحياتها من الأفراد (من جهة)، وعلى تأمين مجموعة الخبرات والمهارات اللازمة لإنجاز عمل، ولكن هنا ربما علينا أن نتساءل: هل أي عمل تطوعي في مؤسسة ما عمل ذو بعد إنساني؟ أم مهني؟ أم مادي؟ أم.. وغير ذلك من الاعتبارات التي قد تدفع الأفراد لمزاولة العمل التطوعي من خلال مؤسسة ما، وما يهمنا في هذا الإطار، هو عدم دمج البعد الإنساني للعمل التطوعي بالعمل التطوعي المؤسساتي، فالتطوع للعمل (من خلال مؤسسة)، يرتبط بدور المؤسسة وأهدافها وطرق عملها، فإن كانت المؤسسة تقدم خدمات إنسانية (تقديم علاج صحي مجاني في المناطق النائية مثلاً )، عندها يكون التطوع هو لأهداف إنسانية، أما إن كانت المؤسسة تهدف لتطوير صناعة ما (فالتطوع هو لأهداف علمية)، وإن كانت المؤسسة تهدف لنقل المعرفة، فالتطوع هدفه المساهمة في نقل المعرفة وهكذا.

العمل التطوعي لخدمة التنمية:

بعيداً عن البعد الإنساني للعمل التطوعي، وعن رغبة وقدرة الفرد بالقيام بهذا العمل، ففي مجال العمل التنموي لا يمكننا أن نضع العمل التطوعي كأحد ركائز نجاح العمل التنموي، فالتنمية هي قضية معقدة تعجز عنها الدول والمنظمات الدولية والمنظمات الأهلية، وبالتالي فإن الاعتقاد بقدرة العمل التطوعي على إحداث فرق في مجال العمل التنموي، هو موضوع غير مقنع. وربما يكفي أن ننظر لمعظم برامج المنظمات الدولية المتعلقة بخفض معدلات الفقر وتأمين الرعاية الصحية حول العالم، فإن نظرنا لنتائج هذه الأعمال (الممولة بشكل كبير، والتي تحوي خبرات كبيرة) ولاحظنا أن نتائجها غير مرضية (باعتراف المنظمات نفسها) لعلمنا بأن تحدي التنمية ليس بالبساطة التي يعتقدها البعض، وخاصة في دول العالم الثالث، وهو موضوع منظم ومعقد ويحتاج لاستراتيجيات وخطط وموارد كبيرة وآليات ضبط ومراقبة ومتابعة وتدقيق، وكل ذلك لا يمكن للعمل التطوعي أن يقدمه.

المؤسسات والعمل التطوعي:

قد يكون من المفهوم أن تلجأ بعض المؤسسات أو المنظمات غير الحكومية للاستعانة بأفراد للقيام بأعمال تطوعية، وذلك لأسباب محددة، كمحدودية الموارد أو وجود حدث ضخم ومفاجئ، أو غير ذلك من الأمور، إلا أنها لا يمكن أن تضع العمل التطوعي كجزء من استراتيجيتها، أو كهد ف، فالعمل التطوعي يعاني من مشكلات كبيرة أهمها صعوبة الالتزام من قبل المتطوعين، وعدم الاستمرارية، وضعف في الكفاءة، وارتفاع الهدر، مما يجعل العمل التطوعي للمؤسسات مصدر إنفاق أكثر مما هو مصدر للتوفير، فعلى سبيل المثال، فإن إدارة أي مشروع بكوادر متطوعة قد يؤدي لازدياد كبير في كلفة أو زمن تنفيذ العمل (أو كليهما معاً)، وبالتالي لابد من وجود دوافع ومبررات قوية للمؤسسات للجوء للعمل التطوعي، وهذا (على أية حال) جزء من استراتيجية الموارد البشرية في أي مؤسسة، إلا أنه ما يهمنا أيضا أن لا يساء استخدام مفهوم العمل التطوعي، كان يستخدم من قبل بعض موظفي الصف الأول في المنظمات المعنية بالتنمية للتهرب من تأمين كوادر (الصف الثاني)، وذلك حرصاً على تأمين عملهم (من جهة)، وعلى عدم وجود كوادر دائمة ربما تحدث تغييرات جدية في طرق وعلاقات العمل. أو أن يستخدم العمل التطوعي لمحاولة إبعاد كوادر لصالح كوادر أخرى، وذلك حيث يتم تقسيم الأعمال في المؤسسة نفسها إلى أعمال تطوعية (تقدم مجاناً) وأعمال مأجورة، ومن ثم يتم اتباع سياسة انتقائية تحصر الأعمال المأجورة بالكوادر المطلوب تقريبها، والعمل التطوعي بالكوادر المطلوب (تطفيشها)، وذلك كون هذا النوع من السياسات يفرغ المؤسسات من بعدها المؤسساتي.

ومن ناحية أخرى لابد من النظر لتجارب الدول الأخرى في مجال العمل التطوعي، والتي ارتبطت دوماً بخطط للدولة للانسحاب من بعض مجالات الخدمات الهامة، كالرعاية الصحية، والنتيجة أن معظم كبار السن في هذه الدول قد بقوا بدون رعاية صحية، وهنا العمل التطوعي قد جاء بمبادرات فردية لتغطية انسحاب الحكومة من تغطية بعض الجوانب الهامة للمجتمع، وهذا أمر يحسب للمجتمع وليس للحكومات، ولكن هذا لا يعني أن المواطن عليه أن يدفع الضرائب (المباشرة وغير المباشرة) للحكومة، ثم يتطوع لتغطية أوجه القصور الحكومي، دون أن يكون قادراً (على الأقل) على الإشارة إلى المشكلة بشكل صحيح، فالقضية هنا ليست إنسانية، وإنما قضية مؤسساتية أدت لآثار إنسانية، وأتى العمل التطوعي للتخفيف من هذه الآثار، وهنا فإن تحول الحكومات إلى دور الناصح والموجه والمثقف للمواطنين حول أهمية العمل التطوعي هو للتغطية عن قصور أدائها..

الوسيلة لا يجب أن تصبح هدفاً:

إنني أخشى من أن التركيز الشديد على العمل التطوعي وتحويله لهدف هو أمر غير صحي، خاصة عندما يبدأ الخلط بين العمل الأهلي والعمل التطوعي، فالعمل الأهلي تنبع أهميته من وجود (شريحة من المجتمع) مهتمة بموضوع ما، وتركز اهتمامها على تحقيق إنجاز في هذا المجال، أما العمل التطوعي فهو أداة (للتوظيف المؤقت) قد تستخدم من قبل مؤسسات المجتمع الأهلي (أو غيرها)، والربط بين الموضوعين غير مجد، فالعمل الأهلي مازال يعاني محلياً من صعوبات كبيرة تعرقل انطلاقته بشكل جدي، وهو ليس بحاجة لهذا الخلط الجديد في المفاهيم، فعندما يكون هناك شريحة من المجتمع الأهلي مهتمة بإعطاء دفعة للقطاع الصحي أو التعليمي (مثلاً)، فلا أعتقد بأنها ستشترط أن تحقق أهدافها بمتطوعين أو غير متطوعين، وإلا فإنني أخشى بأننا نكرر مفاهيم وتجارب أثبتت عدم نجاعتها لدينا قبل عشرات السنين.

مصادر
أبيض وأسود (سورية)