من المتوقع أنه لن ينتهي هذا الشهر إلا وقد حلت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليسا رايس بين ظهرانينا ضيفة على المنطقة. قدومها المزمع، وربما معها وزير الحرب روبرت غيتس، مهمة لا يمكن فصلها عن الهموم الأمريكية العراقية. قدوم كان قد أعلن عنه الرئيس جورج بوش بنفسه وهو يطلق ما دعيت بمبادرته التسووية الداعية للقاء دولي يقتصر على الإسرائيلي الفلسطيني بحضور عربي منتقى، ووجود للرباعية ممثلاً في مبعوثها طوني بلير، وتحت رئاسة الوزيرة... وهي دعوة كنا قد تعرضنا لها في مقال سابق، وأدرجناها حينها تحت ما يمكن تصنيفه بمبادرات اللعب في الوقت الضائع...

رايس وفق المعلن تأتي لإطلاق ما وصف ب"تحرك جديد"، والمقصود هنا، وفقاً لتوصيف إسرائيلي، إعطاء "أفق سياسي"، أو "فتح شهية للجدال". والملاحظ دونما جهد لأي متتبع أن هذا التحرك باتجاه صناعة هذا الأفق، الذي سوف يفتح شهية الأطراف للانغماس في جدال مرغوب، هدفه إطلاق عملية يكتنفها غموض مقصود وتجري في سياق تسووي غائم المراد أن تظل تتجاذبه الأطراف، لكن دون ما يعني ولو شبه الالتزام بنهايات أو حصيلة ما قد يتكشف عنها هذا الغموض المنشود، أو ما قد يضع حداً لأوهامها المدروسة، أو يوقف الجدل المطلوب استمراره حولها.

ولعل هناك عنواناً فضفاضاً أكثر غموضاً وإبهاماً وإيهاماً تنطلق منه وتستند إليه وتوظفه هذه الحركة هو ما يدعى بفكرة "دولتين لشعبين"، هذه التي ما فتئ يرددها عند الحاجة الرئيس الأمريكي، وتنسب دائماً إليه.

قبل قدوم رايس، حددت في لقاء متلفز ما ترمي إليه مهمتها أو ما تسعى باتجاهه وجاءت من أجله، إنه ما قالت نصاً إنه "تطوير مسار إسرائيلي عربي يوازي ويدعم المسار الإسرائيلي الفلسطيني". وقبل حلولها بعد أيام على خشبة المسرح التسووي في المنطقة الذي دبت عليه الحركة أخيراً، لا سيما بعد أحداث غزة، هناك مشاهد أو فصول تتكامل وتتلاحق على هذه الخشبة، بحيث لا يمكن فصل واحدها عن الآخر، سبقت رفع الستارة المنتظر حدوثه قريباً عبر تحرك رايس المفترض، وكلها تصب في توجه واحد أمريكي-إسرائيلي، وبالتالي "دولي" يربطها ويوثق عراها، يمكن اختصاره في جملة واحدة، هو البحث عن دور تطبيعي عربي ومواصلة الاستفراد بالفلسطينيين... بالتوازي طبعاً مع مواصلة عملية التهويد الجارية في فلسطين وهدف تصفية القضية الفلسطينية.

وعليه، لا يمكن فصل جولة طوني بلير، مبعوث الرباعية، الأخيرة في المنطقة، عن فحوى ما سرب عبر صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية حول مشروع أولمرتي لما وصف بـ"اتفاق مبادئ" مع رئاسة سلطة الحكم الذاتي الإداري يسمح بنوع من إقامة لنوع من "دولة" فلسطينية، وذلك في سياق محاولة تحقيق فكرة "دولتين لشعبين" هذه التي مررنا على ذكرها.

واستطراداً لا يمكن فصل كل من الجولة البليرية وما سرّب عبر "هآرتس" عن مقترح الرئيس بوش الذي سبق وأن أعلن أنه سوف يوفد رايس إلى المنطقة من أجل بحثه... ولا يمكن أيضاً فصل كل هذا عن حديث الإسرائيليين الأخير عن المبادرة العربية، وزعمهم أن أطرافاً عربية أصبحت تصفها بأنها "ليست سلّة واحدة، بل اتفاقاً قابلاً للتفاوض"، هذا التفاوض الذي يريد الإسرائيليون تحويله إلى مجرد منتدى تطبيعي لا أكثر ولا أقل، وفق ما أوضحته إشارة أولمرت لدى استقباله وزيري خارجية مصر والأردن اللذين حلا في فلسطين المحتلة لترويج المبادرة، حين قال: أنه "يرغب بزيارة وزراء عرب آخرين من دول عربية أخرى في المرة المقبلة لمناقشة المبادرة نفسها"!

لا حاجة بنا لمناقشة مقترح الرئيس بوش، مرة ثانية، وقد فعلنا ذلك في المقال السابق، وتم حوله كلام كثير، كما لا يمكننا النظر لمهمة بلير التي أفصح عن حدودها بنفسه في رام الله بعيداً عن المقترح البوشي... بلير الذي قوبل بحفاوة ملحوظة في تل أبيب، وسيعود لاحقاً لافتتاح مكتب له، اعترف لمستقبليه من الفلسطينيين في رام الله بأن لا تفويض لديه يتعدى الجانب الاقتصادي الذي يأمل بتطويره ليغدو سياسياً، ولم ينس أن ينصح "السلطة" بأن تضع خطة لإقامة دولة ما، تشتمل على مختلف الجوانب الأمنية والسياسية والاجتماعية. لكنه لم يقل لهم كيف ستقام هذه الدولة الموهومة وعلى أية مساحة، ولم يقل شيئاً آخر سوى الحديث عن "فرص" لترويج حوار بينهم وبين الإسرائيليين قد يترجم إلى "خطوات ملموسة"! ... بالتوازي مع جولة بلير وصف وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط في حديث له في عمّان عودة اللاجئين الفلسطينيين، الذي هو حق ويعد جوهر القضية الفلسطينية برمتها، بأنه لامنطقي!

لعل خير من لخص الهدف من جولة بلير هو نتنياهو الذي قال بعد لقاء جمع الاثنين: "بلير كان يريد طبعاً رؤية تقدّم هنا من أجل إنشاء جبهة واسعة ضد إيران"! وأكمل، أنا قلت له: "ليس السلام الذي سيجلب الازدهار وإنما الازدهار هو الذي سيجلب السلام"... أي بلغة أخرى يريد القول: أطعموهم وأوهموهم مقابل التنازل عن وطنهم... ولعل هذه هي حدود ومرامي تفويض بلير الاقتصادي، إذ لم يقل للفلسطينيين مثلاً، كيف سيزدهرون في ظل التهويد الزاحف، ومصادرة الأراضي، وتقطيع أوصال التجمعات السكانية وتحويلها إلى كانتونات، وتضخم المستعمرات، وتكثيف الحواجز، والسيطرة على مصادر المياه، والاجتياحات، والاعتقالات، والتدمير، والتقتيل، وإقفال المعابر؟!!

... ومن هنا، تأتي خطورة مؤشر ما سرّبته "هآرتس" من مقترحات أولمرتية، تحدد سقفاً للحركة التي قيل أن رايس سوف تطلقها وأنها إنما تأتي إلى المنطقة في سياقها... الحركة التي مهّد لها بلير، و التي تتوكأ على فكرة "الدولتين" إياها، والمستهدف أن لا تسفر إلا عن ما طمأن الإسرائيليون متشدديهم إليه، أي ما سوف لايتعدى مجرد "فتح أفق سياسي"، يودي إلى "فتح شهية للجدال" !

ما هو المعروض في هذه المقترحات؟
وفق رواية "هآرتس" هو: مفاوضات مع السلطة "في المسائل التي يكون من السهل نسبياً التوصل إلى اتفاق بشأنها" ... أي ما يعني أنها ستجري بعيداً عن ما يعرف بقضايا الحل النهائي، مثل القدس واللاجئين والمستعمرات الكبرى... و تتجنب الخوض في حدود ولون وطعم ورائحة الدولة العتيدة المسموح بقيامها..الخ

ثم، كلام عن "انسحابات" من 90% من أراضي الضفة... وهنا نحن إزاء أخدوعة كبرى، حيث نسبة التسعين في المائة هذه، تحسب بعد شطب ما يعرف بالقدس الكبرى من خارطتها، وإخراج الكتل الاستعمارية من مساحتها، ثم إن هذا الانسحاب، وفق المقترح، يكون كما ذكرت "هآرتس" "باتجاه جدار الفصل، كي تحافظ إسرائيل على يهوديتها، إضافة إلى إجراء عملية تبادل أراضي مقابل إبقاء للمناطق التي توجد عليها الكتل الاستيطانية الكبرى تحت سيادة إسرائيل"...

وهنا نأتي إلى هدف ترانسفيري شهير وهو التخلص من مناطق كثيفة التواجد الفلسطيني في المحتل من فلسطين عام 1948، كالمثلث، مقابل ما هوّد أو سيهوّد في الضفة... لكن الأطرف هو ما جاء في هذا المقترح من أنه "سيتم ربط الضفة بالقطاع من خلال نفق لمنع الاحتكاك بين الإسرائيليين والفلسطينيين والحفاظ على الأمن"، وهذا لن يكون مجانياً، إذ "ستطالب إسرائيل الفلسطينيين بتعويضها بأراضٍ في مقابل موافقتها على حفر النفق"!!!

... وماذا عن القدس؟ يقول ما سرب في "هآرتس"، أن إسرائيل "ترى أنه سيتم إيجاد طريقة ما ليعرض من خلالها الفلسطينيون أجزاء من القدس الشرقية على أنها عاصمة لدولتهم، على أن لا تشمل أجزاء المدينة التاريخية، مع الإبقاء على البلدة القديمة ومحيطها تحت السيادة الإسرائيلية"! ... وعليه، ما الذي بقي للفلسطينيين منها؟

أوليس في هذا ما يذكرنا بقصة أبو ديس، أو فكرة القدس البديلة، وما عرف في حينه بخطة بيلين أبو مازن!
... ما سربته "هآرتس"، لا يعدو ما عرف بخطة رامون، ويذكر بما قيل من أن أولمرت كان يفكر في خطة فصل عن الضفة من طرف واحد، أي على الطريقة الشارونية، وذلك لفرض نوع الدويلة المنشودة أو تطبيق فكرة "دولتين لشعبين" البوشية النسب وفق المواصفات الإسرائيلية...

جلّ المشاهد التي ترى على المسرح التسووي بمعناه التصفوي التي تجيء رايس لتطل علينا من وراء ستارته من شأنها إن أمعنّا فيها النظر أن تكشف عن عملية خداع يتواصل في سياق إيهامي مبرمج وضمن مسار عبثي، لا يحجب حقيقة تقول أن الإسرائيليين ليسوا في وارد تسوية وإنما تطبيع وتصفية، وأن السرّ الكامن وراء الحركة الأمريكية أولاً وأخيراً هو نشدان نوع من التهدئة في ساحة الصراع على فلسطين للتفرغ لمعالجة سبل إقالة المشروع الأمريكي في العراق من تعثره والخروج من الورطة العراقية بأقل الخسائر، والبقاء المهيمن في المنطقة.