إلى أي مدى يمكن أن تدعم روسيا سوريا؟ وهل يمكن حقاً أن تحميها من الجهود الأمريكية و”الإسرائيلية” لتغيير توجهات نظامها او حتى ربما تغيير نظامها نفسه؟

الإجابة عن هذا السؤال تتطلب الرد أولاً على سؤال آخر: إلى أين تتدهور العلاقات الروسية الغربية؟ هنا ثمة اجتهادان:

الأول يقول إن حرباً باردة جديدة، وإن “صغيرة” ومحدودة، تبدو أمراً محتماً بين الطرفين لأسباب عدة، أهمها أن ثمة إجماعاً سريعاً بدأ يتبلور في أوساط النخب السياسية الروسية على أنواعها، مفاده أن الغرب لا ينوي لا منح روسيا الدور الدولي الذي تستحق في الشؤون العالمية والإقليمية، ولا حتى دمجها في نظامه المتعولم، وهو كما فكك الاتحاد السوفييتي في السابق، ينوي الآن تفكيك الاتحاد الروسي نفسه وخنق الامة الروسية بأنفاسها الداخلية.

وفي المقابل، هناك شبه إجماع في الغرب بأنه لا يمكن الوثوق بروسيا كشريك استراتيجي. والدلائل على ذلك كثيرة: نزوع بلاد القياصرة التاريخي إلى التوسع الامبريالي على حساب جيرانها، خاصة الأوروبيين منهم، شعور الروس بأنهم يمتلكون هوية أرثوذكسية أوراسية (أوروبية - آسيوية) متميزة تفصلهم عن الحضارة الغربية، ومخاطر قيام كتلة روسية- صينية جديدة( عبر منظمة معاهدة شنغهاي) قد تشكل نواة تحالف دولي يهدد الزعامة الغربية العالمية، هذا إضافة إلى الشكوك الأمريكية القوية بأن روسيا تسعى إلى إشعال الحروب في الشرق الأوسط لرفع أسعار النفط والغاز بشكل شاهق.

كل هذه العوامل تعزز شكوك ولا ثقة الغرب بروسيا. وبرغم أن الأول حاول في البداية تمويه مشاعر اللاثقة العميقة هذه بضم موسكو إلى عضوية الدول الصناعية السبع الكبار التي تدير شؤون العالم، إلا أن هذه كانت في الواقع عضوية خيالية أو رمزية، فقد بقيت روسيا على هامش القرارات الدولية الأساسية، ولم تتمكن سوى من لعب دور رمزي وفولكلوري في المجموعة، لا بل ثمة إشارات قوية إلى أن الغرب قد يسحب قريباً شرف هذه العضوية منها.

هذا عن الاجتهاد الأول، وكما هو واضح، يتضمن هذا الأخير توقع تجدد الصدام بين الغرب وروسيا، وفي وقت قريب.

الاجتهاد الثاني لا ينفي التوترات الكبرى الحالية بين الطرفين، لكنه يحذر من الخروج باستنتاجات متسرعة، كالحديث عن حرب باردة أو سباق تسلح جديد. لماذا؟ ببساطة لأن روسيا لا تمتلك البتة لا القدرة ولا الإمكانات لخوض غمار هذه المغامرة الجديدة، فاقتصادها لم ينتعش إلا بسبب ارتفاع الطاقة الأحفورية، حيث إنها المنتج الأول للغاز، والثاني للنفط في العالم، وقوتها العسكرية الاستراتيجية باتت مترهلة وتحتاج إلى نفقات ضخمة لتحديثها، ومتاعبها الجمة في مجالها الجغرافي الحيوي، من أوكرانيا إلى جورجيا وكازاخستان، تحد كثيراً من قدرتها على المناورة العالمية.

والحصيلة: روسيا لا تنوي مجابهة الغرب وجهاً لوجه. إنها فقط تشاكس وتناور كدفاع عن النفس أولاً، ولإجبار الغرب على احترام تاريخها ومصالحها قليلاً ثانياً، وهي بهذا المعنى “تمزح”، لكن بجدية!

أي الاجتهادين أقرب إلى الصحة؟

الثاني بالطبع، لأنه يستند إلى حقائق موازين القوى العنيدة.

وإذا ما كان الأمر على هذا النحو، وهو كذلك على الأرجح، فهذا سيعني أن الدعم الروسي لسوريا سيكون محدوداً بحدود عمليات المشاكسة والمناورة التي تقوم بها موسكو حالياً في الشرق الأوسط والعالم، فهي قد تمنح بلاد الأمويين بعض الأسلحة المتطورة، لكن ليس إلى درجة الإخلال بموازين القوى الشرق أوسطية الراهنة، وهي قد تلوح بإعادة بناء قواعدها في اللاذقية وطرطوس، لكنها ستبقي ذلك كورقة تهديد لابتزاز واشنطن.

الحركية الروسية، إذاً، في سوريا الشرق الاوسط أقل كثيراً من أن تكون انقلاباً جيو- استراتيجياً كذلك الذي أحدثته صفقة الأسلحة التشيكية (السوفييتية) لمصر عام 1955. لكن، مع ذلك، هذه الحركية على محدوديتها قد تكون نعمة من السماء لسوريا. صحيح أنها لن تزوَدها ببوليصة تأمين كاملة ضد مخططات المحافظين الجدد الأمريكيين لتغيير نظامها، لكنها على الأقل ستفتح لها كوة في جدران الحصار المفروض عليها لتطل برأسها ويديها منها، ملوحة ببعض الصواريخ الروسية المتطورة التي أثبتت وجودها في حرب الأسيرين في لبنان. هل أجبنا عن سؤالنا الأولي؟

ربما، ولكن ليس بشكل متكامل، وهذا لسبب واضح: صورة الصراع الروسي الغربي ليست متكاملة بعد. إنه يمر في مرحلة انتقالية دقيقة. وفي مثل هذه المراحل، التي تحتمل المزاح والجدية معاً، يكون الشيء ونقيضه واردين.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)