لا غرابة، ولا جديد، في أن يدمج أولمرت أمرين في تصريح واحد: تهديد غزة عسكرياً، وتخفيض سقف التوقعات مِن اللقاءات السياسية مع الرئيس الفلسطيني. فتهديد الفلسطينيين عسكرياً وتخفيض سقف توقعاتهم السياسية، وجهان لإصرار أولمرت على المضي قدماً في المعالجة الإسرائيلية الأمنية المعهودة للصراع، ما يشير إلى حقيقة أن تظاهر القيادة الإسرائيلية بتقسيم الفلسطينيين بين "مُعتدلٍ" في الضفة و"مُتطرف" في غزة، لا يعدو ذراً للرماد في العيون، واستثماراً بشعاً للشرخ الفلسطيني الداخلي، ومحاولة واضحة لتعميقه وإطالة أمده ما أمكن، بما يساعد على كسب المزيد مِن الوقت، بهدف فرض مزيد مِن حقائق الرؤية الإسرائيلية على الأرض.

وهذا ما يوجب على الفلسطينيين عموماً، وخصوصاً هنا في الضفة وهناك في غزة، أن يكفوا عن ابتلاع الطعم الإسرائيلي، إذ يخطيء ويتوه مَن يعتقد أنه قد وُجَدَ تنظيم فلسطيني يمكن للقيادة الإسرائيلية الإعتماد عليه في تنفيذ برنامجها في المنطقة، فثابت السياسة الإسرائيلية هو استباحة كل ما هو فلسطيني، وضرب كل ما هو موجود مِن تنظيمات وشخصيات فلسطينية، سواء المتهم منها بـ"التطرف" أو "الاعتدال".

وهذا ما يدفعني لإستخلاص أن إسرائيل لن تشرِّع الأبواب أمام "فتح" ولن تقدم لها كلَّ التسهيلات كما قد يتراءى للبعض، كما أنها لن تغلق كل الأبواب أمام "حماس" ولن تحاصرها حتى الموت، بل ستبقي الحياة عند الطرفين ضمن الحدود التي يحتاجها استمرار التطاحن بين الأطراف الفلسطينية في اطار سياسة "فخار يكسِّر بعضه".

الإستخلاص آنف الذكر تؤكده حقائق ممارسة السياسة الإسرائيلية الراهنة، وعبَّرً عنها تصريح أولمرت آنف الذكر أبلغ تعبير، بل، وأكدته وقائع السياسة الإسرائيلية على الأرض منذ قيام دولة إسرائيل وحتى يوم الناس هذا. وأعتقد أن تجاهل هذه الحقيقة المرة، سيان في القراءة أو الممارسة السياسية الفلسطينية، هو شكل مِن اشكال تزييف الواقع، ويشبه إلى حدٍ بعيد سلوك ذاك الذي يرى الذئب ويبحث عن أثره. وفي ذلك توهان لا يميز بين صوت السياسة الإسرائيلية وصداها.

ارتباطا بما ينطوي عليه تصريح أولمرت مِن دلالات، وما يكشف عنه مِن حقائق. ومِن باب أخذ العبرة واستلهام دروس تاريخ الصراع، يجدر التذكير، أن القادة الإسرائيليين أدركوا جيداً أن إنشاء دولتهم انطوى على جريمة أخلاقية بحق الشعب العربي الفلسطيني. وفي هذا الإطار، يذكر جون مرشماير وستيفن. م. والت في كتابهما (اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية)، أن بن غوريون قال لرئيس المؤتمر اليهودي العالمي ناحوم غولدمان: "لو كنت زعيماً عربياً لما تصالحت قط مع إسرائيل، ذلك أمر طبيعي: لقد أخذنا بلدهم..... اننا ننحدر مِن إسرائيل، لكن قبل ألفي عام، وما الذي يعنيه ذلك لهم (يقصد العرب)؟ هناك معاداة للسامية.... لكن هل كان ذلك غلطهم؟ إنهم لا يرون سوى أمراً واحداً: لقد جئنا وسرقنا بلدهم. فلماذا عليهم أن يقبلوا بذلك؟".

هذا الإدراك أوقع القادة الإسرائيليين في مأزق إستراتيجي، لأنه، وبدل أن يدفعهم نحو المعالجة السياسية للمعضلة، والإستعداد لتقديم استحقاقات تسوية سياسية مع الشعب الفلسطيني، دفعهم لإستمراء لعبة المعالجة الأمنية، التي ثَبَتَ أنها مهما حققت مِن انجازات على المديين القصير والمتوسط، إلا أنها تبقى قاصرة عن وضع حدٍ لهذا المأزق الشائك والمعقد على المدى البعيد.

في السياق، يذكر يوسف ويتز (مدير الصندوق القومي اليهودي) في مذكراته: أنه منذ آب 1948 تم الاتفاق أن تشن إسرائيل حملة إعلامية لإقناع الرأي العام العالمي "بأنه لم يعد لدى الفلسطينيين مكان يعودون إليه، وليس أمامهم سوى فرصة واحدة لإنقاذ ممتلكاتهم، وهي بيعها والاستفادة مِن ثمنها، كي يستقروا في مكان آخر". وبدوره يذكر بن غوريون في مذكراته، أن آبا ايبان نصحه في يوم 14-7-1948، بأن لا يلهث وراء السلام، وتكفي اتفاقات الهدنة، معللا ذلك بالقول: "لأننا إذا ركضنا وراء السلام فإن العرب سيطالبوننا بالثمن، والثمن هو تحديد الحدود أو عودة اللاجئين أو الاثنان معا".

وعليه، فإنه، ورغم الإدعاء الدائم للقيادات الإسرائيلية المتعاقبة منذ بن غوريون "القوي" حتى أولمرت "الضعيف"، حول الرغبة في الحل السياسي، والاستعداد لدفع الثمن المترتب عليه، إلا أن الوقائع على الأرض تؤكد أن المعالجة الأمنية كانت، وما زالت، السبيل الإسرائيلي لمعالجة الصراع، وكانت وما زالت طريقة لتعامل الإسرائيليين مع ما جلبوه لأنفسهم، ولغيرهم مِن مآزق، تعددت اشكالها وجوهرها واحد، يقوم على فرضيةِ أن الحروب وفرض الحقائق على الأرض، تخلق واقعا سرعان ما يُعترف به، أو تتم المساومة عليه في مراحل عقد التسويات. وقد عبَّر يغئال آلون عن تلك السياسة في احدى منطلقات مشروع، كان تقدم به "للتسوية"، بعد شهر على هزيمة عام 1967، وطوره لاحقا عام 1976، بالقول: "فلو ان إسرائيل سمحت لجيشها عام 1949 باحتلال كامل الضفة الغربية لما كان يخطر ببال أحد الآن ان يدّعي ضد حق اسرائيل بالبقاء في المدينة القديمة او الخليل او نابلس".

هكذا تصرفت القيادات الإسرائيلية، وهذا ما يوجزه موطي غولاني في كتابه (الحروب لا تندلع مِن تلقاء نفسها) بالقول: "اختارت قيادة إسرائيل عادة ضمان أمنها بواسطة قوتها. في هذا المناخ يمكن قبول اتفاقية سلام فقط بعد أن يتضح مَن هو المنتصر ومَن هو الخاسر، مَن هو القوي ومَن هو الضعيف".

ويضيف (موطي غولاني): "منذ كانون الثاني 1948، أدارت القيادة العليا الإسرائيلية شؤونها معتمدة على الفرضية القائلة بأن المفضل أن تقوم البندقية برسم الحدود لا المحراث ولا بذلة الديبلوماسي". وبالتالي فـ"إن قادة الجهاز الأمني الإسرائيلي عملوا مِن خلال الإدراك بأن اظهار القوة يخلق قوة حقيقية، والقوة الحقيقية عندما تمارس وتنجح ولو جزئياً تساعد الظاهر للعيان في تثبيت نفسه كمعطى سياسي استراتيجي حقيقي".

دلالات تصريح أولمرت بقدر ما تؤكد ضرورة أن يستفيق الفلسطينيون مما يعيشونه مِن حالة تائهة، وأن يبادروا لمعالجة شرخهم الداخلي كأولوية قصوى في أجندتهم السياسية، كما يشي بها الواقع، وليس كما تتراءى لهذا الطرف أو ذاك، فإنها، وبذات المقدار، تكشف عن مدى عقم السياسة الإسرائيلية، وفشل رهانات قادتها، وآخرهم أولمرت، على امكانية وجود قائد فلسطيني واحد يستطيع القبول بالرؤية الإسرائيلية الأمنية لتسوية القضايا الرئيسية للصراع: حق العودة والقدس والحدود والمستوطنات والمياه. وإلا ما معنى أن تعج الصحافة الإسرائيلية في الآونة الأخيرة بتحليلات تقول: إن أولمرت سيتفاجأ بـ"تطرف" الرئيس الفلسطيني "المعتدل" عندما يجري التفاوض على القضايا الأساسية للصراع؟!!! وما معنى أن تصف تحليلات الصحافة الإسرائيلية الرئيس الفلسطيني بآخر متطرفي منظمة التحرير الفلسطينية؟!!! وما معنى عدم تفاؤل أولمرت بالتوصل إلى تفاهم مشترك مع الرئيس الفلسطيني ليجري عرضه على "لقاء الخريف" الغامض الذي دعا إليه الرئيس الأمريكي بوش؟!!!

ما تقدم يشير إلى حقائق الواقع كما هي، ويؤكد استخلاص موطي غولاني في كتابه آنف الذكر، يقول: "إن أمام الإسرائيليين خيارين لا ثالث لهما، الحرب بثمنها المعروف الموجع أو السلام بثمنه المعروف الموجع، الإختيار هنا هو بين وجع لا يطاق ووجع فظيع، لكن الجواب على السؤال أيُّ وجعٍ هو الذي لا يطاق وأيُّ وجعٍ هو الفظيع ما زال يمزق المجتمع الإسرائيلي؟".

تلك هي حقائق الواقع الراهن للصراع، وتلك هي حقائق تاريخه، أعتقد أن أولمرت فعلَ خيراً بإعادة التأكيد عليها، فربما يساعد ذلك في تسليط الضوء أكثر على الفرق بين صوت السياسة الإسرائيلية وصداها.