بسبب التزام الحكومة الإسرائيلية الصمت إزاء «النشاط الجوي» الذي نفذته طائراتها في سوريا، الأسبوع الفائت، تعاظمت كرة ثلج الغموض. ولم يفلح سيل الأنباء التي نشرتها وسائل الإعلام الأميركية أولاً، ثم البريطانية أخيراً في حل لغز الطلعة الجوية التي فاجأت سوريا العالم بالكشف عنها، بعد وقت قصير من إعلان إسرائيل تخفيض حالة التوتر في هضبة الجولان.
وفي البداية جرى الحديث عن استهداف شحنة تسليحية موجهة لحزب الله ثم تركز الأمر على منشأة تسليحية إيرانية في سوريا بل وأيضاً استهداف قاعدة صواريخ أرض ـ جو أو حتى أرض ـ أرض لا فرق. وبعد ذلك تم التطرق إلى عملية مشتركة برية وجوية ضد منشأة استراتيجية سورية سرعان ما جرى الحديث عن أنها نووية الطابع أقيمت بالتعاون مع كوريا الشمالية. وبين هذا وذاك لجأت وسائل الإعلام الأميركية تحديداً إلى التلاعب المهني عبر الخلط بين التحليل والمعلومة حيناً والمزج بين أمرين لا يمتزجان: احتمالات التعاون السوري ـ الكوري أو السوري ـ الإيراني والطلعة الجوية الإسرائيلية. ولم يغب عن بال وسائل الإعلام الدولية لا في البداية ولا في النهاية التلميح لاحتمال أن يكون كل ما جرى ليس أكثر من طلعة استخبارية استطلاعية أو تدريبية.
والواقع أن انعدام المعلومات الدقيقة حول ما جرى دفع وسائل الإعلام إلى محاولة تعبئة الفراغ عن طريق الاستناد إلى مصادر إما مغرضة وإما غير مطلعة بما فيه الكفاية. فالجانبان السوري والإسرائيلي، كل بطريقته، فرض تعتيماً على المعطيات: السوري على التفاصيل الدقيقة كالمنطقة المستهدفة ونوعية «الذخائر» التي ألقيت. أما الإسرائيلي فإنه عمد إلى الإفادة من التزام الصمت لإشاعة أجواء بأن الهدف كان من الضخامة بحيث تعتبر الضربة قبل الأعياد فعلاً استراتيجياً.
وفي هذه الأثناء برز الحديث الأميركي عن التعاون النووي السوري الكوري الشمالي وكأنه أساس المشكلة. وفيما رأت جهات عديدة أن أي مشروع نووي يحتاج إلى بنية تحتية واسعة لا يمكن إقامتها في شهور أو سنوات قليلة بدا أن الحديث الأميركي أشد إغراضاً من أي وقت مضى. فلو أن الأمر يستهدف منشأة نووية، أو معدات نووية، لأثار ذلك اهتماماً عالمياً أوسع بكثير من ذلك المقتصر حالياً بالجانبين الإسرائيلي والأميركي إضافة إلى السوري. وأياً يكن الحال فإن إغراق العالم بأنباء غير مؤكدة بل ومتناقضة عن حقيقة ما جرى في الأجواء السورية أو على الأرض يعني أن هناك محاولات جدية لكسر حاجز الصمت. وقد أثار الصمت القائم هذا حفيظة المراسلين والمعلقين الإسرائيليين الذين كثيراً ما تفاخروا بأنهم أسرع من يكسر حاجز الصمت. ويبدو أن تركيز كل المعلقين على أنهم ينشرون تحليلاتهم استناداً إلى المعطيات التي تنشر في الخارج تأكيد على مدى نجاعة الرقابة العسكرية التي فرضت تعتيماً شديداً حول ما جرى.
هناك في إسرائيل من يرى أن التعتيم يخدم غايات استراتيجية إسرائيلية أو أميركية أو مشتركة بين الطرفين. وهناك من يرى أن التعتيم لا يخدم في الواقع إلا الأغراض الضيقة لإيهود أولمرت وحكومته التي تستفيد من الغموض للإيحاء بأن إسرائيل استعادت قدرتها الردعية في المنطقة. وهناك من يؤمن أن الصمت جيد إذا كان يعني تقليص الإحراج الذي أصاب السوريين جراء الفعل الجوي الإسرائيلي مما يعني بالنتيجة تقليص احتمالات انزلاق المنطقة إلى حرب جديدة.
وقد كتب المعلق في «هآرتس» جدعون ليفي أن «التعليل الشائع للصمت المطبق هو أن إسرائيل لا تريد إحراج سوريا وجرها الى الحرب، هو تعليل غريب. ينبغي أن نأمل أن هذا أُخذ في الحسبان قبل انطلاق الطائرات الاسرائيلية الى المكان الذي انطلقت اليه، هذا اذا حدث ذلك. وسواء ردّت سوريا أم لا فسترد على اسرائيل ليس بسبب أقوالها وإنما بسبب افعالها. التقارير الصحفية لا تدفع دولة للخروج الى الحرب».
وأشار ليفي إلى أنه «خلال اشهر طويلة قامت المؤسسة الأمنية بإخافتنا من خلال التحذيرات التي لا تتوقف من المجابهة الوشيكة مع سوريا. لم يظهر أبداً مصدر هذه التحذيرات ودرجة مصداقيتها للناس. مستهلك الأخبار العادي عرف فقط أن سوريا اقترحت السلام وحذرت من الحرب. هو أيضاً يعرف أن اسرائيل لم تستجب لاقتراح السلام السوري بصورة إيجابية، لا بل انها حاولت تحديه وتفحص جديته. الوضع هش وقابل للانفجار، كما قال لنا جهاز الدفاع مرة أخرى، وفجأة في ليلة دامسة ـ بوم».
وخلص ليفي إلى أن «الشبهات ثقيلة وقوية. هناك على رأس صانعي القرار في اسرائيل اليوم رئيس وزراء يجر وراءه فشلاً عسكرياً أكيداً، ووزير الدفاع ذو ميول غريزية للمغامرة. ليس هناك شخص يمكن الاعتماد عليه بأعين مغمضة، خصوصاً ايهود اولمرت وايهود باراك. أحدهما يريد إزالة وصمة فشله في لبنان، والثاني في البرهنة على أنه أفضل من سلفه. يُضاف الى ذلك ايضاً جيش جريح في كرامته ويتطلع الى طي صفحة فشله في الماضي. ونحن؟ نحن مطالبون بدعمهم ودعم عملياتهم بأعين مغمضة».
ومن الجائز أن الخطر يكمن أساساً في تزاوج كل هذه العناصر سوياً في السياسة وفي الجيش. والأهم أن هذا الخطر يتضاعف في ظل وجود إدارة أميركية تنفخ بكل قوتها في رياح الحرب من دون أن تحسب حساباً للعواقب، وتؤكد في كل حين على أن من حق، بل من واجبها، أميركا ارتكاب الأخطاء.

مصادر
السفير (لبنان)