تشهد الجبهة السورية تحركات غير عادية هذه الايام، فبعد الغارة الجوية الاسرائيلية الغامضة علي منطقة دير الزور في الشمال الشرقي لسورية، جري اعلان حالة الاستنفار مرتين في اقل من ثمان واربعين ساعة في الايام الثلاثة الماضية حلقت خلالها الطائرات الحربية الاسرائيلية فوق الجولان.
وتتزامن هذه التحركات، مع تسريبات اسرائيلية صحافية متعمدة لاثارة المزيد من البلبلة والارتباك، فيوم امس نشرت صحيفة الصنداي تايمز تقريرا كتبه احد المقربين من اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية افاد ان وحدة كوماندوز اسرائيلية خاصة تسللت الي داخل العمق السوري، واستولت علي معدات نووية كورية شمالية كانت جزءا من مجمع نووي في طور الانشاء.
انها مؤشرات توحي جميعها بان احتمالات توجيه ضربة عسكرية الي سورية باتت وشيكة. والسؤال المطروح بشدة هو عما اذا كانت هذه الضربة في اطار هجوم امريكي ـ اسرائيلي شامل علي ايران وسورية ام علي الاخيرة وحدها؟
الاستعدادات الامريكية لضرب ايران لم تتوقف، فبعد تصريحات برنارد كوشنير وزير الخارجية الفرنسي التي طالب فيها بلاده بالاستعداد للحرب، كشفت صحيفة الصنداي تايمز نفسها في عددها الصادر امس عن ان سلاح الجو الامريكي كلف مجموعة من خيرة ضباطه بوضع خطة استراتيجية شديدة السرية للحرب المقبلة مع ايران، وكشفت الصحيفة ان القيادة المركزية الامريكية تخطط منذ عامين لشن هجوم محتمل ضد ايران، وكلفت الجنرال لورانس شولتز احد المع جنرالات سلاح الجو بالاشراف علي الخطة الجديدة، بمساعدة الجنرال الاسرائيلي لاني كاس الخبير في الحرب الاليكترونية.
صحيفة الصنداي تايمز البريطانية لا تنطق عن هوي، فهي معروفة بدقة معلوماتها، بحكم قرب بعض العاملين فيها من اجهزة استخبارات بريطانية وامريكية واسرائيلية، وجري استخدامها بفاعلية لتسريب معلومات مماثلة، بعضها كان مضللا، عن البرنامج النووي العراقي، لتضخيم خطر هذا البرنامج اولا، ولتعبئة الرأي العام الغربي ضد نظام البعث الحاكم في بغداد لتبرير خطط الاطاحة به واحتلال العراق.
الربط المتنامي بين كوريا الشمالية وسورية، والتأكيد علي سعي الاخيرة لامتلاك اسلحة نووية يصبان في اطار حملة تحريض مسعورة ضد سورية لشيطنة نظامها بالطريقة نفسها التي تم من خلالها شيطنة نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
هناك سيناريوهان رئيسيان يمكن استخلاصهما من حملات التشويش والتحريض المتصاعدة ضد سورية، الاول يقول بان اسرائيل، وباتفاق مسبق مع الولايات المتحدة، وربما فرنسا ايضا، بصدد الاقدام علي ضربات استباقية ثلاثية الطابع، تستهدف اولاها سورية، وثانيتها حزب الله في جنوب لبنان وثالثتها حركات المقاومة الاسلامية في قطاع غزة و حماس علي وجه الخصوص.
الهدف من هذه الضربات الاستباقية هو تدمير القدرات الصاروخية لكل من سورية وحزب الله علي وجه الخصوص، واختبار الدفاعات الجوية السورية وما في ترسانتها من معدات جري استيرادها من موسكو مؤخرا، ومحاولة استفزاز ايران ودفعها الي الانجرار الي الحرب دفاعا عن حلفائها في لبنان وسورية، الامر الذي يسهل قرار الهجوم عليها بالنسبة الي الرئيس بوش وادارته، والحكومة الاسرائيلية.
اما السيناريو الثاني فيتلخص في الاقدام علي هجمات استفزازية محدودة لسورية علي غرار غارة دير الزور لاشغال قيادتها، واحراجها عربيا وداخليا، بعدم قدرتها علي الرد، انتظارا للهجوم الموسع الاكبر عليها وعلي ايران في الوقت نفسه.
السيناريو الاول يبدو الاكثر ترجيحا، لان الانفراد بسورية، وتوجيه ضربات اليها ربما يكون الخيار الاسهل والاقل كلفة، بالمقارنة مع كلفة الخيار الثاني بمهاجمة ايران، وهي كلفة ضخمة بكل المقاييس. ويبدو ان بعض الدول الخليجية تفضله، لان الرد الانتقامي السوري، في حال حدوثه، لن يستهدفها مثلما هو الحال مع ايران، ولان هذه الدول تعتقد ان ضربة اسرائيلية الي سورية وحزب الله في لبنان يمكن ان تقضي علي نفوذ الجانبين في لبنان، وتحقق الامن والاستقرار فيه، وربما ترجح كفة تحالف الرابع عشر من آذار اي الحريري وشركاه.
فمن الواضح ان هناك عملية Image destruction اي تدمير شخصية النظام السوري، وهز صورته امام الرأي العام السوري اولا والعربي ثانيا، باظهاره بمظهر الضعيف غير القادر علي الرد علي الاختراقات الاسرائيلية المهينة والمذلة لجبهته الداخلية، من خلال الغارات الاسرائيلية في عمقه الاستراتيجي، والتسريبات الصحافية عن تسلل فرق كوماندوز الي اقصي حدوده الشمالية ودخول مناطق عسكرية حساسة من المفترض ان تكون محمية بشكل جيد، وأخذ اجهزة ومعدات نووية.
الهدف من هذه التسريبات مزدوج، الاول كشف مدي ضعف المؤسستين الامنية والعسكرية السورية، والثاني رد الاعتبار للمؤسستين الامنية والعسكرية الاسرائيلية بعد ان خسرتا سمعتهما ومنيتا بهزيمة مهينة في الحرب اللبنانية الاخيرة.
الصمت الرسمي السوري، وغياب الشفافية وعدم الرد بشكل علمي مقنع علي هذه التسريبات الصحافية الاسرائيلية والامريكية هو الذي يعطي هذه التسريبات مصداقية، ويجعلها تحقق الاهداف المرجوة منها.
فالملاحظ ان معظم المسؤولين والمتحدثين السوريين ابدوا ارتباكا كبيرا في الرد علي هذه التسريبات، وتحدثوا بكلمات غير مفهومة، وبالتالي غير مقنعة، عندما واجهوا اسئلة من قبل وسائل الاعلام حول حقيقة ما جري في دير الزور، وطبيعة الغارة الاسرائيلية والاهداف العسكرية التي استهدفتها.
لا نضيف جديدا عندما نؤكد مرة اخري بان سورية مستهدفة من قبل اسرائيل والولايات المتحدة جنبا الي جنب مع دول تحالف الاعتدال العربي ، لانها ما زالت تتمسك بالحد الادني من الثوابت العربية، ولكن مشكلة النظام السوري، انه لا يحاول كسر العزلة التي يفرضها عليه النظام الرسمي العربي، بالوصول الي الشارع العربي وتعبئته الي جانبه كأحد الخيارات القليلة المتاحة له.
والمقصود بكسر العزلة هنا هو الاقدام علي خطوات جريئة تعزز من قوة جبهته الداخلية، بالافراج عن المعتقلين السياسيين، وتوسيع دائرة الحريات السياسية والاعلامية، وتبني خطاب عربي جديد مقاوم. فالوقت قصير، ومساحة المناورة محدودة، والتردد قد يعطي نتائج عكسية تماما. ولعل قرب حلول عيد الفطر المبارك يوفر الفرصة الملائمة لإفراغ السجون والمعتقلات من بعض الرموز الوطنية التي اختلفت مع النظام علي امور تتعلق بالحريات والاصلاحات السياسية وليس علي القضايا الاستراتيجية مثل مواجهة مشاريع الهيمنة الامريكية والاسرائيلية.
نري رائحة شماتة في بعض الأروقة العربية الرسمية تجاه ما تتعرض له سورية من استفزازات اسرائيلية، ولا نبالغ اذا قلنا ان بعض الانظمة العربية تستعجل الضربة الاسرائيلية لسورية في السر والعلن، وهو امر مؤسف ومؤلم ومحزن بكل المقاييس، وما كنا نتوقع ان يأتي الزمن الذي نعيش فيه مثل هذه المأساة.
ربما تكون القيادة السورية ارتكبت بعض الاخطاء او حتي الكوارث في لبنان، كرد علي الاهانات التي تعرضت لها واجبرتها علي سحب قواتها بشكل مذل، ولكن هذا لا يعني ان يقف بعض العرب في خندق اي عدوان امريكي ـ اسرائيلي مشترك لتدمير هذا البلد العربي الذي خاض معارك الأمة جميعا ضد اعدائها.