الفرق بين الصحيفة الامريكية و الصحيفة العربية: الاولى تنشر دعاية البنتاغون مجانا، والعربية تنشرها مقابل المال.

في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 أنشأ البنتاغون برعاية وزير الدفاع السابق رامسفيلد مكتبا أسماه "مكتب التأثير الاستراتيجي". أطلقت الصحافة عليه فيما بعد اسم "مكتب التضليل الإعلامي" ، لأن مهمته الحقيقية هي ممارسة التضليل الإعلامي على الصحافة و وكالات الأنباء عبر تزويدها بطرق مباشرة ،أو غير مباشرة ، بأخبار يختلط فيها الحقيقي بالمزيف، الصادق بالكاذب، و ذلك خدمة لاستراتيجيات البنتاغون و أهداف الإدارة الأمريكية السياسية و العسكرية .

ظل عمل هذا المكتب سريا حتى كشفت عنه النيويورك تايمز قبل حوالي عامين ، فاضطرت الإدارة الأمريكية لإغلاقه حفاظاً على مصداقية البنتاغون . تبين من خلال القليل الذي رشح عن عمل هذا المكتب أنه لم يكن يزود المعلومات للصحافة و وكالات الأنباء مباشرة إنما عبر طرف ثالث لتبدو عالية المصداقية و حيادية. و قد عرفنا بعضاً من طريقة عمله عند افتضاح ما سمي "فضيحة رشوة الصحافة العراقية " من قبل قوات الاحتلال التي انفجرت عام 2005م ، فشركة "لنكون غروب" ، و هي شركة علاقات عامة أصحابها من قدامى المحاربين ، حصلت على مقاولة من "وحدة المهام الخاصة بالعمليات المعلوماتية" في "قوات التحالف" ، لتشرف هذه الشركة على عملية تحرير المقالات ، ثم يتم ترجمتها عبر مقاول عراقي ، ثم إلى مقاول آخر مهمته حمل هذه المقالات أو القصص إلى الصحيفة المتفق معها مسبقا مع كمية من الدولارات لنشر المقال في الصحيفة كإعلان مدفوع الأجر ، لكن دون الإشارة إلى ذلك على صفحات الجريدة ، و بعد وضع اسم ما حقيقي أو موهوم لكاتب القصة . و من هذه الصحف تنقل صحف أخرى المقالات أو القصص. و بالطبع تحمل هذه المقالات أجندة المحتلين عبر إشاعة أجواء ايجابية عن واقع العراق تحت الاحتلال، و رسم صورة إنسانية لجندي الاحتلال، و حرف النظر عن مواضيع أساسية لصالح مواضيع ثانوية ، أو عبر تبني رواية الاحتلال لما يجري في العراق على أنه حرب أهلية بين السنة و الشيعة ، و أن مهمة الاحتلال تتلخص بالتوفيق بين الطرفين و منع نشوب النزاع بينهما ( و يا بخت من وفق راسين بالحلال كما يقول أخوتنا في مصر ). أما لماذا لا ينشر البنتاغون هذه القصص مباشرة عبر مكتبه الإعلامي ؟ فذلك لسبب واضح فهو يريد أن يعطيها طابع الحيادية عبر ظهورها كمقالات مهنية عادية ، و بأقلام صحفية محايدة ، و في وسائل إعلام محايدة.

لقد لفت نظرنا تكرار نشر قصص تحمل بصمات "مكتب التضليل الإعلامي" في صحيفة القدس العربي . و كي لا يحتج أحد بأنه قد تم حل هذا المكتب نقول أن رامسفلد قال عند إعلانه حل هذا المكتب "أنه برغم أن المكتب مغلق فسوف يستمر البنتاجون في محاولة نشر رسالته من الخارج " ، و على ما يبدو أن رسالته قد تسربت بوسيلة ما إلى صحيفة محترمة رصينة ذات خط وطني كالقدس العربي .

نبدأ بالمقالة الأولى التي نشرت في الصحيفة يوم 15/ 8 تحت عنوان:

"جنود أمريكيون يرعون رضيعة عراقية عثر عليها وسط القمامة ".

إن هذا العنوان يختصر إيديولوجيا تحضير الشعوب البرية المتوحشة التي اجتاح الغربيون تحت شعارها العالم . ثم نقرأ أن مصدر الخبر " بغداد ـ من روس كولفين " . من هو هذا الصحفي ؟ مع أي وكالة أنباء يعمل ؟ في أي جريدة غربية ينشر ؟ من الذي قام بالترجمة ؟ كل هذه أسئلة لا إجابات عليها . ثم في تفاصيل الخبر نقرأ " فقدت الرضيعة فاطمة الجبوري التي أتمت للتو شهرها التاسع أباها ( لم يذكر كاتب الخبر كيف فقدته ) ،ثم قتل مسلحون أمها وعمها ( يوحي استخدام كلمة مسلحين أن المقاومة هي من قام بالقتل ) وتركت وحيدة بدون رعاية في كومة من القمامة في بغداد .ثم اكتشفتها الشرطة العراقية بين أكوام القمامة و يبدو من سياق القصة أنها سلمتها للقوات الأمريكية لتظهر في المشفى العسكري الأمريكي في المنطقة الخضراء . و نتابع التفاصيل مع كاتب القصة ، فيقول :

" أنقذت الطفلة البريئة من حقول القتل في العراق ونجاتها رغم كل الظروف جعلتها نجمة إعلامية في مستشفي عسكري أمريكي في المنطقة الخضراء في بغداد. وقال اللفتنانت بيت بروكلي القائم بأعمال مسؤول العلاقات العامة بالمستشفي إنها رضيعة.. إنها السعادة في مكان سيئ ."

يذخر الأدب الكولونيالي بأمثال هذه المواقف و التعابير ، التي تتعاطف مع الأطفال الأبرياء ، أبناء المتوحشين سكان الأرض الأصليين ، الذين يحاول الغربي المتحضر إنقاذهم من همجية أهلهم ، وإخراجهم من البربرية ، و تعليمهم التحضر قبل أن يكبروا و يلتحقوا بأهلهم القتلة المتخلفين البرابرة....الخ . يتابع كاتب القصة:

"وفي الفترات التي تتخلل نوم فاطمة يرتب العاملون في مستشفي الدعم القتالي الثامن والعشرين المواعيد لمصوري شبكات التلفزيون الأمريكية والأجنبية لزيارة الرضيعة التي يتكفلون بها أملا في أن تنقذها قصتها من مستقبل غامض والأطفال علي وجه الخصوص هم الأكثر تعرضا للمخاطر بسبب العنف الطائفي في العراق الذي أودي بحياة عشرات الآلاف وأدي إلى تشريد الملايين، كما أشار تقرير لمنظمة (أوكسفام) البريطانية الخيرية إلى أن 28 في المئة علي الأقل من الأطفال العراقيين يعانون من سوء التغذية. وفاطمة هي محط الاهتمام الآن ويحيط بها الممرضات والزائرون الآخرون في عنبرها. ولكن الجنود الأمريكيين سيعودون قريبا ولا أحد في المستشفي يعرف متى تحديدا، لأخذها إلى ملجأ للأيتام حيث تنضم لخمسة من أقاربها"

لا حظ الاستغلال الإعلامي الرخيص لقصة الطفلة. ثم عزو مشكلة أطفال العراق إلى العنف الطائفي و ليس للاحتلال ، الذي يتلخص عمله في إنقاذ الأطفال من الموت في المزابل حسب القصة السابقة ! و بعد ذلك نقرأ تفاصيل عن وزن الطفلة عند العثور عليها ، و كيفية العثور عليها و كيفية إحضارها للمشفى ، و عن محاولة الجيش الأمريكي العثور على عائلتها الكبيرة ، أو تبنيها من قبل عائلة أخرى لكن القوانين العراقية تمنع التبني ( متخلفون ) ، كما يذكر كاتب القصة لنصل إلى الفقرة الختامية من الموضوع ، فيقول :

" وقال الأخصائي ديزموند كاشيوتي عندما جاءت إلي هنا كانت خائفة وفزعة. والآن فإنها تضحك طول الوقت. صنعنا لها علاقة من ملاءة، نضعها فيها ونحملها بينما نرعى المرضي وننجز الأعمال الكتابية .

وتنام في غرفة ملحقة بقسم الممرضات كي يتمكن من السهر عليها. وسريرها الصغير في زاوية بالغرفة وسط أرفف امتلأت بملابس أطفال ومستلزمات طبية تم التبرع بها. ووجود فاطمة في المستشفي عامل الهاء يحظي بترحيب للعاملين الذين ما زالوا يحاولون التغلب علي مقتل الكابتن ماريا أورتيز رئيسة الممرضات التي لقيت حتفها في هجوم بقذائف المورتر في العاشر من تموز (يوليو) الماضي لتصبح أول ممرضة في الجيش تلقي حتفها في القتال منذ حرب فيتنام."

ألم تصبح الآن في جهوزية نفسية لتدين هؤلاء "القتلة" ، الذين قتلوا بقذائف المورتر رئيسة التمريض الكابتن ماريا أورتيز ، لأنهم سببوا حزناً لهؤلاء الملائكة الذين يرعون هذه الطفلة ؟ ألم تنس أن الممرضة القتيلة تعمل في مشفى عسكري تابع لجيش محتل غاز في حالة حرب ؟

أما القصة الثانية فقد نشرتها صحيفة القدس العربي على شكل خبر صحفي تحت عنوان :

" شيخ بني تميم في أبو غريب يتحدى المليشيات الشيعية و يعقد صلحاً مع السنة بواسطة نقيب أمريكي "

و الخبر هنا بدون مصدر . و في تفاصيل الخبر نقرأ ما يلي :

" أكد الشيخ (محسن علي كاظم التميمي) إنه بينما كان في طريقه الى بيته مؤخراً، اختطف من قبل رجال ضربوه وهدّدوه بالقتل بسبب تعاونه مع قوات الاحتلال الأمريكي.

وعلى الرغم من أن الشيخ التميمي (وهو شيعي) قد أطلق سراحه إلا انه كشف أن المختطفين كانوا من الميليشيات الشيعية التي أرادت منعه من الدخول في أي حركة ناشئة في الأحياء السنية.

ويوم الخميس الماضي أعلن (الشيخ محسن) تحديه لهذه التهديدات في منطقته المحاطة بالأعشاب والأدغال بالقرب من القناة التي تسقي الحقول الزراعية. وقال إنه هناك وسيشارك في تأسيس نقاط تفتيش تقام في المنطقة يقوم علي الحراسة فيها رجال من السنة والشيعة.

يقول الشيخ التميمي: نريد أن ننسي الماضي. نحن لا نستطيع أن نبني العراق إذا لم نكن جمعاً واحدا"

لا حظ كيف أن الخبر يقول في البداية .أن الشيخ ضرب و هدد بالقتل بسبب تعاونه مع قوات الاحتلال الأمريكي . ثم قفز كاتب الخبر إلى موضوع السنة و الشيعة. و لا تنسوا أن تتوقفوا عند عبارة نريد أن ننسى الماضي لأنها عبارة أثيرة على قلوب الأمريكان كأمة تكره الماضي ، الذي يعني التاريخ ، لأنها أمة بلا تاريخ. و يتابع محرر الخبر المجهول:

"ونقلا عن صحيفة (ستارز اند سترايبز) الأمريكية فإنّ جنود الكتيبة الثانية يعملون منذ اقل من ثلاثة اشهر مع عدد قليل من سكان المنطقة لإقامة نقاط تفتيش مشتركة لحماية السكان.

ويقول النقيب جون ولسون (33 سنة): هذه المهمة أخذت منا وقتاً طويلاً للعمل كوسطاء بين السكان الشيعة والسنة للحصول على موافقتهم بإقامة نقاط مشتركة. ويضيف: كان علينا تمييز الشيوخ العقلاء وجمعهم ليتحادثوا مباشرة. وأضاف انه كان معجباً بشجاعة (الشيخ محسن) والآخرين من سكان المنطقة الذين اظهروا الرغبة في تفضيل سلام المنطقة واستقرارها علي المصالح الطائفية.

وقال (نيلسون) موجها كلامه الى(الشيخ محسن): سأعمل كل ما بوسعي للتأكيد علي نجاح هذا العمل والتأكد من عدم حدوث شيء ضدها.

وقبل أسبوعين، اكتملت واحدة من ثلاث نقاط تفتيش خطط لنصبها في منطقة أبو غريب. وبالتوافق مع هذا النجاح الأخير ضمن قاعدة تحقيق المصالحة(من الأسفل الى الأعلى أي من قواعد الشعب والعشائر وصولا الى القوىالسياسية) لم تهاجم نقطة التفتيش، طبقاً لما يقوله مسؤولون عسكريون ومواطنون من سكان المنطقة.

وبدأت نقطة التفتيش أعمالها يوم الخميس الماضي بالقرب من قرية شيعية واقعة بين مناطق يهيمن عليها السنة. وفي ماض ليس ببعيد جداً كانت الحقول المعزولة تشكل غطاء ممتازاً لمناوشات طائفية طبقاً لما يقوله الجنود الأمريكان. ويعتقد أيضا أنها كانت موقعاً لعدد من الكمائن وملاذات لاختفاء عدد من أبناء العشائر السنية المحليين. ويوم الخميس اقسم عدد كبير من أبناء الطائفتين في المنطقة بغض النظر عن انتماءاتهم بالمحافظة علي سلام المنطقة ووعدوا بإنجاح هذا المشروع المشترك.

وقال(حسن جبار) الشخصية السنية البارزة في المنطقة، والذي كان عقيداً في جيش الرئيس السابق صدام حسين: إن هذا العمل يعد انجازاً عظيماً في المنطقة. ما كانت تسعي الحكومة الى تحقيقه في أربع سنوات حققناه في شهر واحد تقريباً . "

هذه القصة تعد قصة بسيطة بالنسبة للقصة السابقة ، فهي تركز على ترسيخ الرواية الأمريكية لما يجري في العراق على أنه قصة حرب أهلية بين السنة و الشيعة ، و أن الجيش الأمريكي يقوم بعقد المصالحة بين الطرفين كي لا يقتلا بعضهما بعضاً ! و بالطبع يجب نشر أجواء ايجابية عن نجاحات الأمريكان ، مثل إقامة نقاط التفتيش و عدم مهاجمتها ، و انتشار الأمن في المنطقة ،و نقل آراء السكان الراضية المرضية !

و على نفس المنوال وجدت قصة أخرى في موقع آخر لا علاقة له بصحيفة القدس العربي تغزل على نفس المغزل السابق . تروي القصة الثالثة قصة المواطن العراقي الذي أنقذ حياة أربعة جنود أمريكيين و في تفاصيل الخبر" أنقذ مواطن عراقي حياة أربعة جنود أمريكيين وثمانية عراقيين بوقوفه في طريق منفذ هجوم انتحاري.وأفاد بيان للجيش الأمريكي بأن المواطن العراقي قتل في الانفجار عندما سارع باعتراض منفذ الهجوم الذي كان يريد تفجير نفسه وسط مجموعة من الجنود الأمريكيين أثناء اجتماع مع أعضاء في قوة دفاع مدنية عراقية في مدينة العراقية جنوب العاصمة بغداد يوم السبت الماضي. ونقل البيان عن أحد الجنود قوله: (لو لم يعترضه (الانتحاري) لكانت العاقبة شديدة السوء"

و هذا الخبر منقول مباشرة عن بيان للجيش الأمريكي ، لكنه يتصدر تفاصيل أحداث يومية مأساوية عن الوضع العراقي ، مثل مقتل شقيق عقيد قائد شرطة نجدة ديالى ، و مقتل مدنيين في بغداد و كركوك و في النهاية و بعد أن تتعب من القراءة يأتيك خبر آخر ، فيتابع محرر الخبر "أعلن الجيش الأمريكي الاثنين توجيه الاتهام إلى جندي أمريكي في سلاح مشاة البحرية الأمريكية (مارينز) في إطار التحقيق حول سجناء الحرب العراقيين الذين قتلوا في الفلوجة في 2004م. وأعلن سلاح المارينز في قاعدة كمب بندلتون في كاليفورنيا (غرب) انه تم توجيه الاتهام إلى السرجنت جيرمين نلسون الخميس.

ويأتي توجيه هذا الاتهام بعد مثول جندي آخر هو جوزيه نازاريو، سرجنت سابق، أمام المحكمة في قضية مقتل أسيري حرب غير مسلحين في الفلوجة. وعلى صعيد متصل فقد افتتحت محاكمة الكولونيل ستيفن جوردان الضابط الأمريكي الوحيد الملاحق في قضية فضيحة التعذيب في سجن أبو غريب العراقي الاثنين أمام محكمة عسكرية في قاعدة فورت ميد في ولاية ميريلاند (شرق) بعد إسقاط حوالي نصف التهم الموجهة إليه .

و هكذا فالعراقي الجيد يفدي الأمريكي بدمه لذا فهو خبر رئيسي ، أما الأمريكي السيء فإن حكومته تحاسبه ، لأن الجيش الأمريكي جمعية خيرية لخدمة العراقيين الذين يفدوننا بدمائهم .و لا تسأل أيهما أهم قصة العميل الذي أنقذ جنود الإحتلال ، أم جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الأمريكي في الفلوجة و أبو غريب ؟ فطريقة صياغة الخبر تجزم أن قصة العملاء هي الأهم لذلك وردت أولاً و كخبر رئيسي ، أما جرائم الحرب فهي أحداث ثانوية لا قيمة لها لذلك ركنت أسفل الخبر ، و ربما لن يطلع عليها أحد لأن أغلب القراء يقرؤون عنوان الخبر و نصفه الأول فقط .

ما الفرق بين الجريدة الوطنية و الجريدة غير الوطنية المأمركة . الجواب نجده عند لؤي البلداوي، رئيس تحرير صحيفة "المؤتمر" التابعة لجماعة أحمد الجلبي، ففي تعليق له على فضيحة رشوة الصحافة العراقية "أبدى استغرابه من دفع مبلغ 50 دولاراً لصحيفته عن نشر مقال دعائي بعنوان "العراقيون يصرون على العيش رغم الإرهاب"، وأكّد أن صحيفته موالية لأميركا، و"أي شئ يدعم أميركا ننشره"مجاناً.

هذا هو الفرق بين الصحيفة غير الوطنية و الصحيفة الوطنية . غير الوطنية الأمريكية تنشر قصص كالسابقة مجاناً ، أما الوطنية فتنشره مقابل الفلوس