تسعى هذه المقالة الى درس تاريخ وديناميكية الجهادية السلفية في لبنان، شرح اسبابها، البحث في تأثيرها على الامن المحلي اللبناني واستكشاف مسارها المستقبلي. كما تضع المقالة امامنا سلسلة من الوصفات السياسية التي يمكنها أن تساعد على تخفيض تهديد الجهادية السلفية المحلية بفعالية، والتخلص منها في النهاية.
يقصد من المقالة تقديم تقييم مستقل ومعمق لتهديد الجهادية السلفية، المتأثرة بالقاعدة، لأمن لبنان الحاضر والمستقبلي. فالنقاش الهادئ والمتبصر حول موضوع القاعدة في لبنان يعتبر امرا ضروريا ومتأخرا جدا. لقد كان، ولسوء الحظ، مربكا ان لم يكن مهملا عن قصد في الحقل العام اللبناني، ويعود ذلك جزئيا الى ميل النخب المحلية الحالية لمعالجة خطر التطرف الديني السني في بلادهم بشكل عادي وعدم اكتراث غالبا، لاسباب سياسية مختلفة.
وفي محاولة للتنقيب في تاريخ الجهادية السلفية، سماتها وأسبابها، يرغب المؤلفان في ارساء ارضية جديدة وضع قضية تقول ان الجهادية في لبنان ليست ظاهرة فلسطينية حصريا، وان امتدادها العالمي ليس محصورا بمخيمات اللاجئين الفلسطينيين، بالاضافة إلى ذلك، تحتج المقالة بالقول ان الحركة الجهادية السلفية ليست بدعة سورية.
وبذلك، يضع المؤلفان امامنا معلومات اختبارية كافية لاثبات ان الحركة الجهادية السلفية كانت قادرة بالفعل، على مدى السنوات الخمس الماضية، على جذب عدد اكبر من الاتباع اللبنانيين. بمعنى آخر، تحاول المقالة الاثبات بأن القاعدة في لبنان لديها مجموعة حقيقية ومتأصلة من المؤيدين والانصار. بالواقع، إن ’لبننة’ كهذه للحركة الجهادية السلفية قد تسارعت بالفعل وأخذت تحولا اكثر خطورة عقب حرب العراق في عام 2003.
ولاحداث بعض الاختراق في ضباب علم الالفاظ والدلالات ذات المعنى الدقيق المحيطة بمفهوم الارهاب الاسلامي، تبدأ المقالة بتقديم تعريفات عملية مناسبة وواضحة للسلفية والجهادية السلفية، وهما مصطلحان مختلفان جدا، غالبا ما اديا الى ارباك خاطئ والى استخدامهما بشكل قابل للتبادل في النقاش العام وأدب الارهاب. ومن ثم تفسر المقالة اسباب الجهادية السلفية المرتبطة بالقاعدة في لبنان، وتصف ديناميكيتها، وتفرغ ما تحويه الكيانات المتعددة الأشكال المرتبطة، التي يمكن أن تكون مرتبطة مع القاعدة عبر الفئات المتعددة الموجودة في مناطق لبنان المختلفة، وتقيم التهديد الذي تشكله على لبنان.
ثانيا: تحلل المقالة بحذر واهتمام الدور الذي قد تكون سوريا تلعبه في كبح انتشار القاعدة في لبنان، موضحة الإمكانات والحدود لدور كهذا. أخيرا، تضع المقالة أمامنا سلسلة من الوصفات السياسية المقصود بها مساعدة الدولة اللبنانية على تخفيض مستوى تهديد الجهادية السلفية المحلية، ومن ثم التخلص منها في النهاية.

تقدم نظرية الصراع الاجتماعي اضاءات مفيدة على السبب الذي يدعو الافراد، عموما، للارتباط بالارهاب او النشاط المسلح. اذ تعرض نظرية كهذه الى القول بان الارهاب لديه هدف بناء مثل العمل كمحفز لاحداث تغيير اجتماعي ضروري وايجابي، او تشكيل قناة يتم التعبير من خلالها عن عدم المساواة السياسي، الاجتماعي والاقتصادي والتخفيف منه. وتعرض تعقيدات هذه المقاربة بما يتعلق بجذور الارهاب الى ان اسباب العنف يمكن تحديدها بالظلم السياسي، الاجتماعي والاقتصادي.
حرب السنتين
وعلى الرغم من النوعية المتفق عليها لاتفاقات تقاسم السلطة هذه، فقد اثبتت احداث 1975 انها مرعبة جدا للنظام وللائتلاف الحاكم.
وقد نسب انهيار النظام الى جملة من العوامل الداخلية، بما في ذلك التحول الديموغرافي الذي كان، وبشكل متزايد، في مصلحة المسلمين على حساب المسيحيين، الصدع الطائفي الذي منح وضعا مهيمنا للموازنة على حساب المسلمين، نهوض نخبة من المفكرين الراديكاليين داخل المجتمع الداعمين للتغيير الاجتماعي - السياسي وللخط العروبي، وعجز النخب اللبنانية عن التعامل بفاعلية مع التطور الاقليمي والاختلافات والفروقات الاجتماعية- الاقتصادية التي ادت عموما إلى حرمان المسلمين.
ما بعد الطائف
واتحدت الظروف الاقتصادية المناوئة مع القلق والاضطراب الاجتماعي المتنامي ليضاف ذلك الى قلة الاهتمام بالمناطق الافقر في شمال وجنوب لبنان. فاتفاقية الطائف عام 1989، التي انهت الحرب الاهلية، نظمت عددا من بنود الميثاق الوطني، وبذلك فسرت مبادئ التوزيع الطائفي للسلطة. وبدلا من إلغاء الطائفية، اعاد اتفاق الطائف التأكيد على وجود تخصيص كل المراكز في بيروقراطية الدولة وفق الحصص الطائفية. اضف الى ذلك عجز وتقصير النظام الانتخابي اللبناني، الذي يؤثر سلبا على النظام السياسي ويجعلها غير عادل بصلبه. وهناك عيبان رئيسيان في النظام الانتخابي، هما نظام القائمة الانتخابية وطريقة انشاء المحافظات التشريعية.
وقد اكدت الانتخابات البرلمانية الحرة نسبيا في يونيو عام 2005 والازمة السياسية الناجمة عنها، مرة اخرى، على ان السياسات الطائفية كانت موجودة في اصل العملية السياسية في لبنان. فالتغيير في لبنان، كما اشار احد علماء السياسة اللبنانيين بذكاء، كان يحدث ولا يزال- في سياق الاستمرارية المؤسساتية والدستورية.
حاجز التعددية
اما بالنسبة للاسلاميين الراديكاليين اللبنانيين، تحديدا، فان البنية المتعددة للحكم اللبناني كانت دوما مصدر احباط وعائقا امام تصوراتهم واهدافهم وطموحاتهم الاسلامية القصوى. فالنظام التعددي اللبناني ينكر اي جهود من قبل اي مجموعة لتنفيذ سياسات ذات تمثيل وطني ومفروض من قبل الدولة تكون ضمن خط طموحاتها ووجهة نظرها المجتمعية والايديولوجية. فمسألة فرض الشريعة (القانون الاسلامي) في لبنان كان وسيظل دوما مهمة مستحيلة، لانه ليست هناك من مجموعة قادرة على فرض حكمها من دون تعريض مجهود كهذا لخطر معارضة قوية، او من دون المعاناة من ارتدادات كبرى. بمعنى آخر، ليست هناك من مجموعة طائفية كبيرة وقوية كافية قادرة على احتكار السلطة، وليس هناك من مجموعة صغيرة كفاية- ولكن مهيمنة في المواقع الحكومية الاساسية و/ أو الجيش- لفرض حكم اقلية، تحريك موارد الدولة، والتخلص من المعارضة لضمان الخضوع الكامل لسلطة الحكومة.
وكان حزب الله في الثمانينات مجبرا على تعديل طموحاته الثورية والاسلامية / الشيعية- تأسيس حكم اسلامي في لبنان على اساس ولاية الفقيه، عقيدة القائد الاعلى الايراني آية الله روح الله الخميني- بعدما تفهم الموقف مع وقائع لبنان العلماني والمتعددة الطوائف، فالتاريخ والجغرافيا في لبنان قدما آليات داخلية لتحييد الهيمنة الطائفية في المجتمع اللبناني، لانه لم تكن هناك من مجموعة، ولن تكون، قادرة على الاستمرار في السلطة مدة كافية لشرعنة سلطة مجتمعية حقيقية.
وفي هذه الاثناء، كان من الواجب على اي فهم واضح وشفاف لجذور واسباب القتالية الاسلامية في لبنان ان يتضمن تفسيرا للكيفية التي اثرت بها البيئة الخارجية المهيمنة على نهوضها ونموها، باختصار، ان ظهور الحركات المسلحة الاسلامية في الشرق الاوسط كان مترافقا، وبشكل ليس صدفة، مع ازمة هوية عامة في المجتمع الاسلامي- العربي ومع الشعور المشترك بالاذلال والخضوع نتيجة للهزائم العسكرية العربية المتلاحقة للعرب امام اسرائيل.
اما في لبنان فقد تعززت ظروف ازمة كهذه بسبب 15 عاما من الحرب الأهلية (1975-1990) التي يعود السبب الاكبر فيها الى معارضة اليمين المسيحي لليسار الاسلامي، والاكثر وضوحا بسبب الغزو الاسرائيلي والاحتلال الذي اعقبه لمدة للجزء الجنوبي من البلاد لمدة 18 عاما (1982-2000). اما اليوم فلا تزال الحالة في لبنان متأثرة بشدة بالمحيط الاقليمي العنيف الذي يحتشد فيه الصراع الاسرائيلي- الفلسطيني والحرب الطائفية الدموية في العراق التي تقحم المسلمين السنة والشيعة فيها.
طرابلس موطن التأسيس
من خلال اجراء مسح لتاريخ السلفية والجهادية السلفية في لبنان، يمكن القول انها ظهرت وتطورت بشكل رئيسي في طرابلس، العرقوب، مجدل عنجر، قارون وصيدا.
كانت طرابلس المدينة الأولى في تقديم الايديولوجية السلفية الى لبنان، فالسلفيون في طرابلس، بحسب ما يقول الشيخ خالد (وهو سني لبناني عمره 72 عاما)، نمت نتيجة ظروف الحياة البائسة التي تراكمت على مدى السنوات، ونتيجة تزايد المنتسبين وسط ’الشارع السني’. فبالنسبة لأهالي طرابلس، أكد الشيخ خالد ’بدا الإسلام (أو تفسير محدد له) الجواب على مشاكلهم’. أما بالنسبة لل 50 عاما الماضية، فقد كانت ثاني اكبر مدينة لبنانية تشهد انحدارا سريعا وحادا في ثرواتها الرومانية، العثمانية والإسلامية القديمة، ف’جوهرة الشرق’ السابقة، كما كان اللبنانيون والعرب يدعونها، هي الآن مرتبطة بشكل مخز ومخجل بالانحدار الاقتصادي، والصناعي والتجاري، مقابل ارتفاع نسبة البطالة، والافتقار الى مشاريع التطوير وامتداد رقعة الفقر’.
وغالبا ما شعرت مجتمعات طرابلس بالتجاهل سياسيا واقتصاديا، حتى خلال فترات جاء فيها رؤساء حكومات لبنان من هذه المدينة.
وكالجنوب، كانت طرابلس تعاني اهمال بيروت الكامل لها ومن سياسات التطوير الاقتصادي غير المنصفة. فالحياة السياسية في طرابلس هي في مستواها الأدنى، ومحصورة فقط ببعض الأنشطة الجارية في بيوت الوزراء او اعضاء البرلمان في عطل نهاية الأسبوع. فهناك حضور ضئيل للأحزاب السياسية، الرابطات المهنية الاتحادات التجارية. وبالنتيجة، تميل المساجد لأن تكون المؤسسات الأكثر نشاطا وتعبيرا.
ويعتبر باب التبانة معقل السلفيين الاكبر في طرابلس، ويصدف ان يكون الحي الأفقر والأكثر احباطا في المدينة.
ان طرابلس موطن لحركتين اسلاميتين مؤسستين بشكل جيد، وقد تمتعتا بعلاقات وثيقة مع المجتمع السلفي في لبنان وهما حركة التوحيد الاسلامي والجماعة الاسلامية.
بعد انشائها 1979 - 1980 اي عقب ثورة الخميني، وتفعيلها في عام 1982 بعد الغزو الاسرائيلي للبنان مباشرة عملت حركة التوحيد كامتداد مؤسساتي وعسكري للشيخ سعيد شعبان الذي كان ذات مرة احد اشد القادة الاسلاميين السنة سحرا في لبنان (وعضوا سابقا في الجامعة الاسلامية). فايديولوجية سعيد شعبان انبثقت من ايديولوجية الشريعة التي بدونها لا يمكن لاي حكومة ان تكون شرعية وفي عامي 1983 - 1984 احكم مقاتلو شعبان المتحالفين مع رجال ميليشيا فتح سيطرتهم على طرابلس بالحاق الهزيمة بعدد من خصومهم الاسلاميين المحليين. لكن حركته، على كل حال، انشقت في ذروة قوتها في عام 1985 عندما انسحب خليل عكاوي وكنعان ناجي، رسميا، من المنظمة لتنظيم فئتهم المسلحة الخاصة بهم، والتي دعوها جند الله. ولوقف انتشار الجهادية الاسلامية في لبنان (وتحديدا في الشمال) دخل الجيش السوري طرابلس في خريف 1985 وسحق ميليشيا حركة التوحيد الاسلامي، رغم انه سمح للشيخ شعبان بالاحتفاظ بقيادة حركته. هذه الهزيمة لم تمنع عودة الظهور اللاحقة للميليشيا في بيروت وصيدا ومناطق اخرى في الجنوب اللبناني وفي عام ،1988 ضم محاربون فارون من الميليشيا قواهم الى حزب الله لمحاربة جيش لبنان الجنوبي والقوات الاسرائيلية في المنطقة التي اعلنتها اسرائيل ’منطقتها الامنية’ في الجنوب.
يكن.. وكلمة السر
’اذهبوا للرجل’
اما الجماعة الاسلامية فهي مجموعة اسلامية سنية اصولية تأسست في عام 1964 من قبل اعضاء شبان في ’عباد الرحمن’ واصولها كما وثق ذلك نزار حمزة ترجع الى ذروة جهود جمال عبدالناصر لتحقيق الوحدة العربية في منتصف الستينات، وتؤمن الجماعة الاسلامية بتحقيق النظام الاسلامي في لبنان المبني على اساس قانون الشريعة وكفرع محلي يتبع عقائد الاخوان المسلمين. اما فتحي يكن، الذي ينسب اليه خطأ تأسيس الجماعة الاسلامية، فهو على كل حال بمنزلة الجد للجماعة والايديولوجي الرئيسي فيها. ففتحي يكن باحث اسلامي محنك وداعية اسلامي من طرابلس يبلغ من العمر 73 عاما، وهو شخصية اسلامية ساحرة ومؤثرة في لبنان والمنطقة. وكونه تلميذا تابعا للمفكر الاسلامي المصري الراديكالي سيد قطب، ومؤمنا بكتابات روسو، فولتير، ماركس - انجلز الثورية ومعجبا بالتعاليم الفلسفية لاسامة بن لادن وايمن الظواهري، رغم انه يختلف معهما في استراتيجيتهما العسكرية، فإنه يعارض الايديولوجية العلمانية والشيوعية ويعتبر الاسلام هو الاساس في النظام الاجتماعي - السياسي.
ومن عام 2000 وحتى عام ،2005 حافظ يكن على عدم البروز كثيرا، محاولا اعادة التواصل مع اصدقائه الاسلاميين القدماء وتطوير علاقاته مع عدد من الحركات الاسلامية عبر المنطقة، اهمها الاخوان المسلمون السوريون والاتراك. اما اليوم، فيعتبر فتحي يكن الرابط المستقل للنظام السوري مع الاخوان المسلمين السوريين (او ما يعرف ب ’اذهبوا للرجل’ عندما تكون دمشق راغبة في التفاوض بشكل غير مباشر مع الاخوان المسلمين)، ليكون بذلك متمتعا ليس فقط بعلاقات طيبة مع دمشق، وانما بعلاقات ممتازة ايضا مع انقرة وطهران.
وفي اغسطس ،2006 شكل يكن جبهة العمل الاسلامي، وهي منظمة (مظلة) تجمع تحتها جماعات ومنظمات سنية لبنانية كبرى في كل انحاء البلاد بهدف ’سد الثغرة الموجودة’، و’انشاء هيئة رسمية موثوق بها للسنة في لبنان’، والتي ’ستعمل بالتعاون مع هيئة رسمية موثوق بها اخرى’. ومن هذه الجماعات، هناك حركة التوحيد الاسلامي، مجموعة اسلام بلا حدود، بقيادة رمزي ديشوم، بالاضافة الى عدد من اعضاء الجماعات الاسلامية، مثل عبدالله الترياقي الذي انفصل عن القيادة واختار الانضمام الى صفوف يكن.
معركة السيطرة على المساجد
وما بين عامي 1995 و،1999 شهدت طرابلس نزاعا مخيفا بين الحركات الاسلامية الرئيسة ’ممثلة بحركة التوحيد الاسلامي، والجماعة الاسلامية، والاحباش’، للسيطرة على المساجد. فاطار المسجد وبنيته ظلا مركز التحرك الاساسي للسلفيين، ليس فقط من خلال خطب الجمعة، وانما من خلال الدروس الدينية ايضا التي يقدمها بعض المشايخ بانتظام الى الموالين لهم. وهذا وفر ل ’باسم كنج’، وهو شخص عائد من افغانستان، فرصة لتأسيس مجموعة جهادية سلفية معارضة لجوهر التوجهات الاسلامية في المدينة. وبسبب ميزة مكانته الثورية وقدراته القيادية، استطاع كنج حشد عدد مهم من المجندين وتابع عمله في تأسيس مخيم عسكري في الضنية، التي تبعد حوالي 50 كلم عن الجزء الشمالي - الشرقي في مدينة طرابلس والناس الذين جذبهم اليه كنج لا علاقة لهم كثيرا بالفكر الاسلامي.
من خلال اتصالات مع الخريجين الافغان والداعمين لهم في بوسطن، تمكن كنج من مقابلة عدد من المغتربين اللبنانيين خليل عكاوي، الذي كان مثله يواصل دراساته التقنية في اميركا. وبعد زواجه من امرأة اميركية تحولت الى الاسلام، وترك كنج الولايات المتحدة في العام 1989. ومع الدعم اللوجستي من ’دائرة الخدمات للمتطوعين العرب’ الموجهة من قبل عبدالله عزام، سافر للمرة الاولى الى باكستان مع زوجته وابنته، ووضع عائلته في مدينة بشاور، على طول الحدود الافغانية - الباكستانية. وبعد جلسات تدريب عسكرية عديدة في باكستان، ذهب إلى محاربة القوات السوفيتية في افغانستان وطور علاقات وثيقة واخوية مع عد من رفاقه الدينيين. وفي عمر ال 25 عاما، تفاعل مع عدد من المتطوعين العرب الذين شكلوا لاحقا نواة مجموعة ’الضنية’. وخلال هذه الفترة، اجتمع كنج، على ما زعم، بأسامة بن لادن وايمن الظواهري. وقد جرح في القتال ضد السوفيت، وتم نقله في العام 19990 الى مستشفى بيشاور.
إنشاء مخيمات التدريب
وفي العام 1991، عاد بشكل مقتضب الى لبنان لنشر الرسالة التي تعلمها من اسامة بن لادن، وفي اولويات اجندته: اعادة الاتصال برفاق القتال في بيشاور وتأسيس شبكة جهادية سلفية في لبنان، وركز جهوده على احياء طرابلس الفقيرة ومخيم اللاجئين الفلسطينيين في عين الحلوة، حيث التقى احد رفاقه في بيشاور ويدعى احمد القسام، الذي كان هو نفسه يملك علاقات وثيقة مع المجموعات الجهادية السلفية الفلسطينية ’عصبة الانصار’ ووصلت علاقة كنج بصديقة الى نهاية مفاجئة عندما تم اعدام القسام ب24 مارس 1997 بسبب مشاركته في اغتيال زعيم الاحباش نزار الحلبي (كان القسام ناجحا بسبب ايهاب البنا الذي كان يعمل كصلة وصل بين كنج وعصبة الانصار) واستطاع كنج الاجتماع بأمير عصبة الانصار ابو محجن، وكذلك بمساعدة ابو عبيدة، المسؤول عن الجناح العسكري للمجموعة.
وفي اوائل عام 1998 مضى كنج بتأسيسه مخيمات التدريب في منطقة الضنية مستفيدا من الخدمات اللوجستية للفلسطينيين الجهاديين السلفيين في عين الحلوة، وفي اقل من عام استطاع تجنيد اكثر من 200 شاب من الاحياء الشرقية المكتظة من المدينة القديمة: ابو سمرا، القبة وباب التبانة، وقد خرج كنج بقوة الى الاضواء عندما شنت مجموعته هجوما على الجيش اللبناني في الضنية في 31 ديسمبر ،1999 وبرغم ان ’التمرد’ فشل، وتم قتل معظم المسلحين فإن عصبة من الناجين (بمن فيهم احمد ميقاتي) فرت بواسطة زورق واتخذت ملجأ لها في عين الحلوة، وبعد يوم من الحادث، اندفع الصحافيون اللبنانيون والمعلقون السياسيون للقول إن الحادث في الضنية جاء كردة فعل من قبل المسلحين على مفاوضات السلام التي كانت قد بدأت قبل اسبوعين بين سوريا واسرائيل في واشنطن، واستنتج مراقبون آخرون أن هدف المسلحين كان تأسيس دولة اسلامية في طرابلس.
العرقوب
في اوائل السبعينات من القرن الماضي، أسس اثنان من الطلاب اللبنانيين الشبان من المنطقة الجنوبية حركة اسلامية دعيت لاحقا ب’حركة العرقوب السلفية’ وقد وصلت اولى اشارات النشاط السلفي الى بلدة شبعا (التي هي جزء من منطقة العرقوب) في اوائل الثمانينات من خلال احد ابنائها هو الشيخ قاسم عبدالله، الذي امضى معظم حياته كمهاجر في السعودية.
ان التهجير البشري الضخم للعرقوب، عقب الغزو الاسرائيلي عام ،1982 ساعد السلفية على الانتشار الى المناطق المجاورة. وساعد انسحاب الجيش الاسرائيلي في 2000 كوادرها على معاودة الدخول الى العرقوب والبدء في الانخراط مع سكانه عن طريق البدء بمشاريع تطويرية وتوفير الخدمات الاجتماعية، الثقافية، الدينية، الصحية والتعليمية. وعلى المدخل القريب من البلدة، بنى المشايخ السلفيون مسجدا عملاقا اطلقوا عليه اسم مسجد ابو بكر الصديق، مستخدمين مساهمات خاصة واموالا من السعودية والامارات العربية المتحدة. وقد ازدهرت السلفية في العرقوب نتيجة عقود من الاهمال، الفقر وعدم التطور في المنطقة. فآثار القصف الاسرائيلي في السبعينات لا تزال حاضرة حتى اليوم. وتنضم الى هذا الاهمال ايضا سلة من المشاكل الضريبية والاجتماعية، بما فيها سوء استخدام السلطة الظاهر لعدد من رجال الدين.
ان الحركة غير مركزية وتعمل، الى حد كبير، من خلال شبكات اجتماعية غير رسمية. كما انه من الصعب تحديد حجم الحركة بسبب طبيعتها السرية اولا. فأعضاؤها يدعون بأنهم لا يؤمنون بالارقام لأنهم يمثلون حركة ’فكرية’.
والحركة تدعم حزب الله في نضاله العسكري ضد الاحتلال الاسرائيلي في مزارع شبعا، لكنها لا تشارك في القتال. وليس هناك، وهو ما يدعو للدهشة، من نشاط عسكري سري او علني لحزب الله في منطقة العرقوب، حيث توجد معركة مفتوحة مع القوات الاسرائيلية هناك. اما دور حركة العرقوب، فمحدود ب’تنوير’ المسلمين وتوفير الخدمات الاجتماعية للفقراء.
السلفية والجهادية السلفية
كان التعريف العملي المناسب للسلفية، في الجدل السياسي العالمي في مكافحة الإرهاب، صعب التعريف ومحيرا نوعا ما. وبالنتيجة كان عدد من الأكاديميين الغربيين والعرب مسؤولي الحكومات ميالين إلى ارتكاب خطأ مساواة السلفية مع الإرهاب والعنف الديني.
فالسلفيون مسلمون سنة يؤمنون بأن تقليد سلوك الصحابة الذي يعتبر بالنسبة للسلفيين الصيغة الأنقى للإسلام - يجب أن يكون أساس النظام الاجتماعي. ويعتقد السلفيون انه بسبب تعلم السلف ’الأصحاب الأفاضل الأولين للنبي’ الإسلام مباشرة الذي تم إحداثه في الدين في سنوات لاحقة وانتهت، بحسب رؤيتهم، إلى تفسير محرف لطريقة الإسلام السوية وللانقسامات غير الطبيعية داخل المجتمع الإسلامي.
إن السلفية، بذاتها ليست مرادفة للإرهاب ولا القتال كما تأتي بأشكال ودرجات مختلفة من التشدد وعلى الرغم من أن الواضح ان السلفيين صارمون عقائديا ويتبنون وجهة نظر فلسفية ثنوية للعالم ’فلسفة تقسم العالم إلى خير وشر، وتعتبر المادة شرا والعقل خيرا’، فإنهم ينكرون، وإلى حد كبير العنف كوسيلة للحصول على أهدافهم. ولا يعني ذلك بأنهم يرفضون سل السيف، وإنما يعني ان السلفيين يحتجون بالقول إن الضرورة الأولوية هي في نشر الإسلام من خلال الدعوة لتحقيق الشروط المجتمعية الصحيحة لتأسيس دولة إسلامية. وكما كان كوينتان ويكتورويتز قد أشار فإن هناك فرقا مهما بين ما يدعى بالسلفيين الإصلاحيين، الذين يعتقدون بالتحول الشخصي والمجتمعي من خلال التعليم ونشر الدعوة على نطاق واسع، وبين السلفيين ’الجهاديين’ مثل القاعدة، الذين يشددون على الضرورة الحتمية للعنف.
فالسلفيون الجهاديون ’والمدعوون أيضا بالسلفيين الجدد’، هم شريحة مؤلفة من أقلية صغيرة موجودة في الفكر السلفي. وبصفتهم مسلمين سنة محاربين، فإن هذه الشريحة من الأتباع تعتقد ان الاستراتيجيات السلمية للانبعاث الإسلامي - الدعوة والإصلاحات السياسية - غير قابلة للحياة، وأن العنف والجهاد الهجومي فقط هو ما سيؤدي إلى تأسيس دولة إسلامية. فالمجاهدون السلفيون متأثرون بكتابات طارق الدين ابن تيمية (1263 - 1328 ) (على الرغم من أنهم يسيئون فهم معناها الحقيقي ويحرفونها)، ويتبعون أو يتعاطفون مع رؤية أسامة بن لادن في سعيه لتأسيس خلافة إسلامية وواجب طرد الغربيين وغير المسلمين من البلدان الإسلامية.
وكقاعدة بن لادن، ظهر الجهاديون السلفيون كنتاح للحرب ضد الاحتلال السوفيتي لافغانستان ما بين عامي 1979 - 1989، وليست مصادفة ان يكون بين قادتهم عدد من الجنود الافغان المحنكين. واصبحت فتوى بن لادن ل ’الجبهة الاسلامية العالمية’، التي تصرح ب ’الجهاد ضد اليهود والصليبيين’، دلالة على الحركة الجهادية السلفية العالمية الجديدة، بالكامل. ففي هذه الوثيقة، يكون بن لادن قد وسع مفهومه السابق عن الجهاد من مفهوم دفاعي الى هجومي.
وعلى الرغم من ارتباطهم بمشهد التمرد الاسلامي العالمي الاكبر، لا يزال الجهاديون السلفيون يستعرضون خصوصيات الاختلافات والسياقات المحلية، كما برهن تطورهم ونموهم داخل لبنان. فحوالي ثلثي الارهابيين الذين يشكلون قيادة القاعدة، بحسب وثائق ل’مارك سايغمان’، يأتون من مصر. والباقون من السعودية، الكويت، الاردن، العراق، السودان، ليبيا ومن لبنان الموضوع الخاضع لهذه الدراسة.

جذور الحركات في لبنان
تعود جذور الجهادية السلفية في لبنان، فمعقدة بشكل هائل، ويمكن البحث فيها من خلال منظور لخليط قوي يعمل على ثلاثة مستويات: المحلي، النظامي المنهجي والفردي.
فعلى المستوى المحلي، يمكن الرجوع بظهور الايديولوجية الاسلامية الراديكالية والمسلحة الى القصور والعجز التاريخي للنظام الاجتماعي - السياسي اللبناني، باختصار، عندما حقق لبنان استقلاله عن فرنسا في عام 1943، ابتدعت اثنتان من النخب السياسية اللبنانية الشعبية ’الميثاق الوطني’. وتعهد الميثاق الوطني، الاتفاق الشفهي المصاغ بعناية، بان يتخلى مسيحيو لبنان عن الحماية الاوروبية وكل المعاهدات العسكرية مع القوى الغربية، بينما وافق المسلمون على وضع اي اهداف وغايات عربية جانبا والقبول بحدود لبنان الجغرافية الموجودة.
بالاضافة الى ذلك، فقد ادخل صناع الميثاق النزاع الطائفي في النظام السياسي عندما اعادوا التأكيد على ان يكون رؤساء لبنان في المستقبل من المسيحيين الموارنة، ورؤساء الوزراء من المسلمين السنة ورؤساء المجلس النيابي من المسلمين الشيعة. كما نصوا على ان تكون تعيينات الخدمة المدنية وتمويل القرارات على اساس طائفي. اما الميثاق الوطني اللبناني المكمل لدستور 1926، فقد وضع من قبل الفرنسيين بالتواصل مع قضاة لبنانيين. وكان من بين اهم بنود الدستور ان تكون المجموعات الطائفية في لبنان ممثلة بشكل حصصي في البرلمان. وقبل عام 1975، كانت اتفاقيات تقاسم السلطة في لبنان تلقى المديح من قبل كثيرين بسبب قدرتها على حفظ ديموقراطية محدودة والمحافظة على النظام المدني في مجتمع حديث منقسم بعمق وموجود في منطقة متسمة بالاضطراب. وادرك آخرون، على كل حال، وبشكل صحيح، الطرح الضعيف الذي تم عليه بناء الاجماع السياسي للنظام.

* الاول من مركز ’صبان’ لسياسة الشرق الاوسط والثاني من مركز ’التهديد اللامتوازن’ ستوكهولم