في البدء كان النفط

للمرة الاولى يضع الرئيس بوتين يده على الجرح الحقيقي المسبب للاحتقان في جسم العلاقات الروسية- الامريكية. وللمرة الأولى يتضح ان هذا الجرح لا علاقة له لا بكبرياء الدب الروسي ورغبته باستعادة دوره كقوة عظمى، ولا له علاقة بسعي واشنطن لابتلاع النفط في روسيا كما في ضواحيها (بحر قزوين وآسيا الوسطى).

قال بوتين، عقب زيارته التاريخية لإيران: “بعض الرؤوس الساخنة في الغرب لا تزال تسيطر عليها أفكار عن كيفية الوصول إلى احتياطات روسيا النفطية، بما في ذلك منطقة سيبيريا الشرقية. لكننا لسنا العراق، ونمتلك القوة الكافية للدفاع عن مصالحنا” وقال: “يجب ألا نحاول الاختباء وراء أصابعنا: الغزو الامريكي للعراق استهدف في الدرجة الاولى السيطرة على احتياطاته النفطية”.

لماذا قرر الرئيس الروسي كشف النقاب عن البعد النفطي في الحرب الباردة الجديدة، وإن الصغيرة والمحدودة، بين موسكو وواشنطن؟ وإلى أين يمكن أن تصل مثل هذه الحرب؟

الإجابات على أسئلة الحاضر قد تجيب عليها قصة الماضي القريب.

وقائع هذه القصة تبدأ في 3 مايو/أيار الماضي، حين أدلى نائب الرئيس الامريكي ديك تشيني بخطاب في ليتوانيا أمام مؤتمر لقادة من دول البلطيق والبحر الأسود، اعتبره العديدون تأريخاً لحرب باردة جديدة بين روسيا وأمريكا.

جاء في الخطاب: “أمريكا وكل أوروبا تريد ان ترى روسيا في خانة الديمقراطيات الصحية والحيوية. ومع ذلك ثمة في روسيا اليوم من يعارض الإصلاح ويسعى لعكس مكاسب العقد الماضي. في العديد من مجالات المجتمع المدني، من الدين إلى وسائل الإعلام والأحزاب، تقيد الحكومة بشكل غير عادل وغير ملائم لحقوق شعبها، وهذا قد يؤثر على علاقاتها مع الدول الأخرى”.

ثم قال: “لا مصلحة شرعية ل(روسيا) تخدم حين يصبح النفط والغاز أدوات للتخويف أو الابتزاز، سواء عبر التلاعب بالإمدادات أو من خلال محاولة احتكار وسائل نقل الطاقة”.

هذه الفقرة الأخيرة في خطاب تشيني كانت كل بيت القصيد. وهي جاءت بعد فشل واشنطن في السيطرة على شركة النفط الروسية العملاقة (يوكوس) التي تحولت بسرعة إلى ثالث أو رابع أكبر شركة بترول في العالم، والتي كان رئيسها ميخائيل خودوركوفسكي وثيق الارتباط بالدوائر الغربية وعلى الأخص بديك تشيني وبيل جيتس.

كان خودوركوفسكي يخطط لبيع جزء كبير من أسهم “يوكوس” إلى احد أصدقاء تشيني في شركات نفط تكساس، إما إكسون أو شيفرون. لماذا؟ لأن دخول الغرب على الخط سيمنع الكرملين من محاولة العمل على استعادة هذه الشركة .

في الوقت ذاته، كان تشيني يضع اللمسات الأخيرة على إستراتيجية السيطرة الأمريكية على كل نفط العالم، والتي حددت ملامحها الاولى في اوائل التسعينات.

في تلك الأثناء، برزت روسيا كثاني أكبر منتج للنفط في العالم. وفي قمة نفطية روسية - امريكية عقدت في هيوستون في اواخر ،2002 تم توقيع اتفاقية لبناء خط انابيب من حقول النفط الغنية في غرب سيبيريا إلى ميرمانسك حيث يمكن شحن البترول بعد ذلك بسهولة إلى الولايات المتحدة. هذا الخط كان يفترض ان يكون أول كونسورتيوم خاص روسي بقيادة “يوكوس”. كانت هذه أيضاً اول محاولة كبرى ل”تحرير” النفط الروسي من سيطرة الكرملين ونقله إلى السيطرة الامريكية. لكن هنا برزت عقبة: بوتين وأنصاره اعتبروا هذا الانبوب مؤامرة امريكية. ولأنه فقد الثقة بواشنطن بعد إلغاء معاهدة “أي.بي.أم” وإنزال قوات القبعات الخضر في جورجيا، فقد قرر العمل.

بقية القصة معروفة: سيطرة الكرملين على يوكوس في صيف 2003 (بعد غزو العراق). وضع خودوركوفسكي في السجن لمنعه من السيطرة على الدولة وتحويل روسيا إلى دولة نفطية تدور في فلك امريكا. ومع هذا التطور، تبددت احلام تشيني بالسيطرة على النفط الروسي، خاصة بعد ان الغى بوتين مشروع خط أنابيب ميرمانسك. الآن هذا الخط في يد الكرملين وهو ينقل النفط إلى آسيا.

هذه هي القصة الحقيقية وراء الحرب الباردة المحدودة الجديدة، والتي كشف بوتين النقاب عن مكوناتها الحقيقية. لكن، لماذا اختار الرئيس الروسي أن يقوم بهذه الخطوة بعد زيارته لطهران، وإلى أين يمكن ان تصل هذه الحرب التي تزكم روائحها البترولية القوية الآن كل الأنوف؟

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)