لا أعتقد أن سوريا في الماضي غير البعيد تأمّلت بفيتو روسي في مجلس الأمن، لكن الفيتو لم يأتِ على أية حال. وفي حالة العدوان على العراق كان واضحاً أن مجلس الأمن لم يكن في وارد إعلان حرب أممي، لكن استحالة القرار لم توقف الاعتباطية الأميركية عن فعل ما ترتئيه، فاتجهت مع بريطانيا إلى مغامرة استعمارية غيّرت تاريخ المنطقة، لا توقفت ولا انحسر أذاها حتى يومنا. لم تتدخل روسيا ولا الصين لحماية العراق طبعاً. لكن الأهم أن وجودهما لم يردع أميركا عن مثل هذا العدوان قبل وقوعه.يجري في الصين تحول اقتصادي ببعد عالمي، لكنه سياسياً يشمل بالردع محيطها المباشر فقط.
في روسيا يجري العكس. فأخيراً تشهد روسيا تحولاً سياسياً عالمي النزعة مقابل مصالح اقتصادية تشمل محيطها المباشر فقط. ثمة جديد في روسيا لا نعلم حجمه بعد. والعزاء أنه في استيضاح كنهه وتبديد ضبابيته يشقّ على أميركا وإسرائيل. وتتألف الجدة من العناصر التالية مجتمعة:
أولًا، إن النظام السلطوي الحاكم أصبح في وضع اقتصادي أفضل منه غداة انهيار الاتحاد السوفياتي إلى درجة إعادة النظر بخصخصة مرافق وطنيــــــة مثل الطاقة. وقد أسهم ارتفاع أسعار النفط والغاز واستعادة تأميمهما في انتعاش الاقتصاد.
ثانياً، إن المراجعة التي تجريها القيادة الروسية الحالية تشمل محاولة للتصدي لمدّ الولايات المتحدة وحلف الناتو بقواعدها الصاروخية والذي ولج دولًا حليفة سابقاً، أو جمهوريات سوفياتيّة سابقة، خاصة مع إدراكها أن هذا الاجتياح الأمني قد يتحوّل إلى تقزيم روسيا حتى في جوارها المباشر، وإلى حصار فعلي يشمل مصالحها الاقتصادية في هذه الدول.
ثالثاً، إن إعادة النظر داخل النظام والرغبة في وقف فوضى التمردات الإقليمية، يرافقه تشجيع النزعات الانفصالية من الغرب، أدّتا إلى رد فعل يتمثل باستعادة عناصر أمنية سلطوية دفة النظام. وطبعاً، باتت هذه ترغب في البقاء في السلطة والحفاظ على مصالحها. ويبدو أن سياسة الدولة العظمى خارجياً هي إحدى أهم أدوات بقائها في السلطة وتوسيع قاعدتها الجماهيرية داخلياً. ففيما عدا وقف الفوضى ومحاربة الفساد (وهي حجج ومبررات صعود كلّ الأنظمة السلطوية) هنالك أداة مفحوصة في الدول العظمى السابقة هي مخاطبة مشاعر الدولة العظمى لدى الجمهور ورفض الدور الثانوي أو التعامل المهين في العلاقات الدولية. مخاطبة هذه العقدة تجلب للنظام شعبية.
الجديد هو إذاً، أنه في هذه السياسة تلتقي حسابات مصالح داخلية وخارجية.
في الماضي القريب بعد الانهيار، مالت روسيا إلى مقايضة الموقف السياسي بمنافع وامتيازات تجارية أو اقتصادية أخرى في العلاقة مع أميركا وأوروبا الغربية حتى تولّد الانطباع أن الموقف الاستفزازي يُتّخَذُ أصلًا لغرض الابتزاز.
أما حالياً فهنالك جديد كما يبدو. ومع ذلك يجب التمييز. فهذه السياسات بعيدة كل البعد عن أن تصبح إيديولوجية كما في حالة السوفيات. وهي ما زالت تراوح في عالم المصالح. لكنها، المواقف، أصبحت أكثر عمقاً استراتيجياً، إذ تلتقي فيها مصالح خارجية وداخلية مع تغير في بنية النظام. ونحن نلاحظ ذلك في رفض ما يسمّى الدرع الصاروخي لحلف الناتو، وتغيّر بنية التعاون العسكري بين روسيا وسوريا ليصبح أكثر جدية والتزاماً، ورفض روسيا القاطع لحملة عسكرية على إيران.
هذا يقلق إسرائيل وأميركا طبعاً، وهي مضطرة أن تأخذه في حسابها. لكن من المبكر البناء عليه وحده، فالعالم غير محكوم بالتوازن. وما زال عالمنا أحادي القطب، مثل عالم غيرنا. وما زالت عناصر قوة أي شعب وأي بلد داخلية أولًا. ولا يجوز ان ترتكز على توازن دولي. فالتوازن الدولي الذي كان في الماضي يعوض عن ضعف داخلي غير قائم اليوم، وعناصر القوة الذاتية هي الأساس في هذا العالم.