رغم ان عنوان الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران المشاركة في قمة الدول الخمس المتشاطئة لبحر قزوين، إلا أن واقع الأمر يمكن اعتبارها ’زيارة دولة’ إذا ما اخذت في سياقها وظروفها السياسية والدولية التي تمر بها دول المنطقة من ضغوط قل نظيرها. فإضافة إلى أنها الزيارة الأولى لرئيس روسي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتسلم الثورة الاسلامية مقاليد السلطة في إيران، فإنها تحمل رسائل متعددة وفي اتجاهات مختلفة دوليا واقليميا وحتى روسيا.
فقد أتت الزيارة في وقت تعيد روسيا تعريف موقعها في النظام العالمي القائم بعد سلسلة تراجعات طوعية بحكم الواقع الناجم عن تفكك الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي بدت فيه موسكو عاصمة تحاول الانتقال من دولة عجوز لا حول ولا قوة لها الى موقع وازن في القرارات الاقليمية والدولية، وهذا ما ظهر من السلوك الروسي خلال الاشهر الماضية في طريقة التعاطي مع المسائل الاستراتيجية لروسيا كموضوع الدرع الصاروخية وسلسلة الرسائل التي وجهتها موسكو الى واشنطن خلال الزيارة الأخيرة لوزيري الخارجية والدفاع الأميركيين إلى موسكو. وفي مقاربة الموضوع لهذا السلوك يمكن ابراز الدعم الروسي لايران من خلال المادة الخامسة عشرة من الإعلان الختامي للدول الخمس، وكأنها صيغت لتبديد مخاوف إيران من إمكان استخدام الأميركيين الأراضي الأذرية للهجوم على أراضيها.اذ نصت هذه المادة على ’إن الأطراف تنوه بأنها لن تسمح، وسط أي من الظروف، لدول أخرى باستخدام أراضيها لشن عدوان أو القيام بأعمال حربية ضد أي من الأطراف’.
تحد لاستراتيجية واشنطن
كما وتحمل رسالة بوتين في اصراره على الذهاب إلى طهران، إشارات عديدة ليس اقلها ما كان اعلنه من ان لا مؤشرات لدى موسكو بأن ايران موشكة على انتاج قنبلة نووية، وإذا ما ربطنا ذلك بما قاله الناطق باسم الخارجية الايرانية حول أنباء ’مفرحة’ حول مفاعل بوشهر النووي الذي تقيمه روسيا في ايران، فإننا أمام تحد روسي آخر لاستراتيجية واشنطن في المنطقة والتي لا يمكن اسقاط خيار شن حرب اميركية بمشاركة فرنسية وبريطانية واسرائيلية، ما يؤشر الى ان الزيارة لم تكن لمجرد اللقاء بالرئيس الايراني ورؤساء ثلاث دول تشترك موسكو معها في رابطة الدولة المستقلة.
وبالنسبة ’للملف النووي’، أكدت روسيا وبطبيعة الحال عبر البيان الختامي للدول الخمس على ’الحق المشروع لجميع الدول الأعضاء في معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية في تطوير دراسة وإنتاج واستخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية من دون تمييز في إطار أحكام هذه المعاهدة، وكذلك آليات الوكالة الدولية للطاقة الذرية’. وجاء الإعلان الختامي عقب كلمة للرئيس الروسي، رحب فيها بتأليف اللجنة الاقتصادية لبحر قزوين، التي ستعقد الصيف المقبل في موسكو. وقال بوتين إن روسيا ستدعم البرنامج النووي السلمي لإيران، لكنه شدد على أنه يجب على طهران أن تكون "مخلصة" لمعاهدة حظر الانتشار النووي. مضيفا أن "العلاقات بين ايران وروسيا ستتطور بشكل غير محدود ونأمل أن تفتح هذه الزيارة صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين"، مشددا على أن "من مصلحة روسيا وجود ايران قوية". وبرر الرئيس الروسي التأخير في إنجاز محطة بوشهر النووية التي تبنيها روسيا في ايران ب "التجهيزات البالية" التي وردت من ألمانيا قبل انتقال العقد منها الى موسكو.
كما وتضيف زيارة بوتين اكثر من نقطة ايجابية لصالح الدبلوماسية الروسية النشطة والفاعلة باتجاه تحدي اصرار ادارة بوش على تحجيم روسيا ومحاصرتها، دون ان يعني ذلك ان موسكو تريد الذهاب إلى حد المغامرة بتوفير مظلة عسكرية لايران، في حال قررت واشنطن شن حرب عليها، لكنها ستعارضها ولن توفر الشرعية لها ما يعمق من مأزق الدبلوماسية الاميركية في تلك المنطقة من العالم.
وأتت الزيارة إلى طهران مع اقتراب موعد انتخابات مجلس الدوما اذ أعلن بوتين انه سيرأس لائحة حزب روسيا الموحدة، ما يعني انه قد يصبح رئيسا لوزراء روسيا بعد أن يترك الكرملين عند انتهاء ولايته الثانية (والأخيرة) في مارس المقبل، كذلك في ترتيب ’بيته الداخلي’ بمعنى تحديد الفريق الجديد الذي سيحكم روسيا بعد تركه قمة هرم السلطة واختيار البرامج والسيناريوهات الكفيلة بابقاء الخيوط كاملة في يده، مع حلول موعد الانتخابات الرئاسية التي قد تحمل مفاجأة غير منتظرة بفوز مرشح المعارضة غاري كاسباروف، ما يستدعي ابداء المزيد من الحذر في اختيار الرئيس الجديد الذي يريده بوتين ’مهذب، كفؤ، وعصري’ وفق تعبيره.
إدارة المعركة
لتلك الأسباب ولغيرها تبدو زيارة بوتين لطهران متعددة الرسائل الداخلية والخارجية، لكن تبقى المسألة الاساس هي اعادة ترتيب العلاقات الروسية - الايرانية قبل مغادرته الكرملين لاعتبارات عديدة ومتنوعة. فروسيا هي بحاجة الى تثبيت علاقاتها الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية في العالم وبخاصة مع الدول الاقليمية الطامحة كايران والتي تمتلك مقدرات يمكن أن تستفيد منها روسيا.
صحيح انه ليس من مصلحة روسيا وجود دولة اقليمية عظمى على حدودها كايران مثلا الا انها في المقابل تمكنت من إدارة المعركة الدبلوماسية الايرانية في البرنامج النووي بدقة متناهية، فموسكو استفادت إلى أقصى الحدود من المشاريع الايرانية في وقت لم تخرج عن مسار الضغوط الأميركية - الدولية على طهران ومشت في مشاريع وقرارات العقوبات الدولية في وقت أمنت لطهران المخارج التجارية المناسبة للافلات نسبيا من سيف العقوبات اولا،ووقوفها في وجه الانتقال من الحل الدبلوماسي الى الحل العسكري ثانيا.
في المقابل وعلى الرغم من عدم الرضا الايراني الضمني على السلوك الروسي في هذا السياق، إلا انه لم يكن لطهران خيارات أخرى، فهي مضطرة أولا وأخيرا للتعاطي مع موسكو وفقا للكيفية التي تراها هذه الاخيرة على قاعدة ان موسكو هي من تمتلك القوة والفاعلية في الاعتراض في مراكز القرار الدولي ومنها مجلس الامن او في الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ربما غريب المفارقات في العلاقات الروسية - الايرانية، وان بدت قد تحررت من عقد الخلفيات الايديولوجية، الا انها تبدو اكثر حذرا وارتباكا في المفاصل الاستراتيجية،لكن افضل التوصيفات التي يمكن ان تطلق عليها هي علاقة المساكنة بين زوجين منفصلين لكل منهما خصوصياته ومصالحه. فهل أتت زيارة بوتين الى طهران كعملية تخصيب للعلاقات الاقتصادية والمالية في مقابل استيعاب طهران للتخصيب الروسي واستغلاله لعمليات تخصيب اخرى تتيح لها حملا وولادة لبرنامج نووي قابل للحياة؟ إن الإجابة على تلك الاسئلة مرهونة باطراف اخرى غيرهما بدءا من الولايات المتحدة مرورا بدول عربية وغير عربية وصولا الى اسرائيل.

* أستاذ العلاقات والقانون الدولي
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني