العدّ العكسي لفترة إدارة بوش يسير قدماً، وها هي تقترب الآن من العام 2008 الذي سيكون فور بدئه عام الانتخابات الأميركية حيث تتوقّف عادةً أيّة إدارة حاكمة عن القيام بمبادرات كبيرة من شأنها أن تؤثّر سلباً على مرشحي الحزب الذي تنتمي إليه الإدارة.

إذن، أمام بوش أقلّ من شهرين لحسم الكثير من القضايا التي تشغل الرأي العام الأميركي الآن وتتصدّر لائحة أولويات المعارك الانتخابية الأميركية، وفي مقدّمتها طبعاً المسألة العراقية.

ومن المهمّ الإشارة هنا أنّ موضوع العراق يعني بالنسبة للأميركيين جملة من القضايا الداخلية المهمّة. فهو أولاً مسألة ارتبطت بعدم مصداقية إدارة بوش وبأكاذيب هذه الإدارة حول مبرّرات الحرب. أيضاً، يرتبط موضوع العراق بما يشغل بال الأميركيين من هواجس الأمن والعلاقة مع خطر الإرهاب الذي استهدفهم في العام 2001.

كما أنّه أمر مهم أيضاً من الناحية الاقتصادية حيث تستنزف الحرب في العراق الميزانية الأميركية إذ تجاوزت التكاليف حتى الآن مبلغ 600 مليار دولار، إضافةً إلى حجم الخسائر البشرية التي شملت عشرات الألوف من الجرحى والقتلى الأميركيين، وهي خسائر مالية وبشرية مرشّحة للتصاعد إذا استمرّت إدارة بوش في خطايا حساباتها وسياساتها في العراق وفي عموم منطقة الشرق الأوسط.

لكن المسألة العراقية تشعّبت الآن إلى أزمات أخرى بالنسبة للأميركيين، أبرزها الأزمة مع إيران ومع من هم حلفاء إيران في المنطقة.

لقد راهنت إدارة بوش على أنّ حربها على العراق وإسقاطها للنظام السابق سيدفع بدول أخرى للتسليم بشروطها ومطالبها كما فعل النظام الليبي. وكان عدد من أركان إدارة بوش قد صرّحوا أكثر من مرّة عقب احتلال العراق بأنّ أمام «الدول المارقة» المعارضة لسياسة واشنطن أحد نموذجين: النظام العراقي الذي أسقطته واشنطن، أو النظام الليبي الذي تجاوب مع كل مطالب وشروط واشنطن للاعتراف به وإقامة العلاقات معه.

لكن تداعيات الاحتلال الأميركي في العراق وفشل السياسة الأميركية فيه، غيّرت الكثير من المعادلات والحسابات في المنطقة كلّها. فالإدارة الأميركية غير قادرة الآن على ضبط الأوضاع الأمنية والسياسية في العراق أو التحكّم بمساراتها، وبالتالي فما كان «نموذجاً» أرادته واشنطن لدول أخرى أصبح كابوساً للجميع.

تملك حتماً إدارة بوش قرار استخدام القوة العسكرية الأميركية ضدّ بلدان أخرى لكن تبعات هذه الخطوة هي التي تمنع حدوثها، خاصّةً بعد المتغيّرات الداخلية الأميركية التي أفرزتها انتخابات العام الماضي والتي أوصلت غالبية ديمقراطية معارضة للإدارة إلى مجلسي النواب والشيوخ.

أيضاً، لم يعد سهلاً على إدارة بوش إدارة ظهرها لدول أخرى فاعلة في عالم اليوم، ولا الاستهتار في مرجعية مجلس الأمن كما حدث في العام 2003 بشأن غزو العراق.

وقد أدّت نتائج الانتخابات الأميركية الأخيرة إلى إسقاط رموز مهمّة من أركان إدارة بوش وممّن يعرفون باسم «المحافظين الجدد» وفي مقدّمتهم وزير الدفاع السابق رامسفيلد والسفير السابق في الأمم المتحدة جون بولتون، وإلى تحجيم نسبي لدور مكتب نائب الرئيس تشيني وإعادة تنشيط دور وزارة الخارجية الأميركية في التعامل مع الأزمات الدولية بعدما صادرت هذا الدور مؤسسة وزارة الدفاع ومكتب نائب الرئيس.

ونلمس الآن هذا التحوّل النسبي في السياسة الخارجية من خلال المفاوضات الأميركية المباشرة مع حكومة كوريا الشمالية رغم اعتراض تيّار «المحافظين الجدد» عليها وإصرار رموز هذا التيّار على مقولة العزل والإسقاط للأنظمة «المارقة».!

فقد فرضت تطوّرات الأوضاع في العراق وانعكاساتها الداخلية الأميركية طريقاً ثالثاً تسلكه إدارة بوش الآن وهو طريق التفاوض التدريجي مع الأنظمة الخصم لها (كما يحصل الآن مع كوريا الشمالية) وسقطت بذلك المقولة الأساس للإدارة التي وضعت من يخالفونها أمام أحد خيارين إمّا الإسقاط أو الاستسلام للشروط.

إنّ كلّ ما يدور الآن من ضجيج في التصريحات والمواقف الأميركية ومن حلفاء واشنطن الأوروبيين بشأن إيران، هو في تقديري أوراق ضغط تمارس الآن على حكومة طهران، ولن تصل إلى مستوى العمليات العسكرية. فالظروف تغيّرت وتتغيّر لغير صالح إدارة بوش، وقرار التصعيد العسكري ضدّ إيران كان متاحاً في العام الماضي أكثر منه الآن ولم يحصل!

إنّ إدارة بوش تعيش الآن مرحلة التساقط التدريجي، وليس لأجندتها أيّة آفاق مستقبلية أو قدرة على الاستمرارية من خلال إدارة جديدة، وهذا ما يضعف الآن إمكانات اتخاذ قرارات بحروب أخرى تلتزم بها أميركا والإدارة الجديدة بعد انتخابات العام المقبل.

فأمام إدارة بوش حالياً خياران فقط: إمّا «إدارة» الأزمات القائمة الآن وترك الحلول لإدارة جديدة، أو السعي لحلّ بعض هذه الأزمات وتسجيل مكاسب سياسية لحزب الإدارة (الحزب الجمهوري) في الانتخابات القادمة، وممّا يحفظ قليلاً ماء وجه هذه الإدارة حينما تغادر البيت الأبيض وتدخل التاريخ.

الخيار الأول يعني سياسة «اللاحرب واللاسلم» في الملف الإيراني وفي الملف الفلسطيني وفي العلاقات الأميركية مع دمشق وفي تمديد الأزمة السياسية الراهنة في لبنان إلى عام آخر، كما يعني ذلك استمرار الأوضاع في العراق على ما هي عليه من «تجارب» حلول جزئية أمنية وسياسية لا تُخرج الأميركيين من هناك ولا تسمح بدخول قوى الجوار إليه!!

الخيار الآخر هو ممكن عملياً لكنّه يحتاج إلى إرادة سياسية حاسمة من الرئيس بوش وإلى حسم الصراع الدائر الآن في مواقع صنع القرار الأميركي بين تيّار الخارجية الأميركية الداعي إلى سلوك طريق المفاوضات (كما هو الآن مع كوريا الشمالية) وإلى تبنّي توصيات لجنة بيكر/هاملتون، وبين تيّار مكتب نائب الرئيس تشيني الذي ما زال مصرّاً على الأجندة والأسلوب اللذين بدأت بهما إدارة بوش رغم فشلهما الذريع في العراق وغيره.

وفي حال أخذت إدارة بوش بخيار الحرص على المصالح الأميركية وبخلاصات تقرير بيكر/هاملتون، فإنّ التفاوض الأميركي المباشر مع إيران سيصبح هو أسلوب التعامل معها عوضاً عن التهديد بضربات عسكرية ضدّها، وسيكون مجلس الأمن ووكالة الطاقة الذرّية هما مرجعية الملف النووي الإيراني.

وستكون هناك جدّية في المؤتمر الدولي الذي دعا إليه بوش حول الصراع العربي الإسرائيلي وتكون سوريا فيه طرفاً فاعلاً ومفاوضاً حول أرضها المحتلّة في الجولان، إضافةً إلى مشاركة فلسطينية شاملة تعبّر عن وحدة وطنية فلسطينية تعمل من أجل دولة فلسطينية مستقلّة على كل أراضي الضفة وغزّة.

وستنعكس هذه الخطوات الجدّية في حال حدوثها بشكل إيجابي على الأوضاع الأمنية والسياسية في العراق، وستوجد مناخاً مناسباً لانتخاب رئيس لبناني جديد بشكل توافقي يمهّد لمرحلة سياسية جديدة في لبنان.

كلّ ذلك ممكن إذا اختارت إدارة بوش السير في طريق مخالف لسيرتها السابقة، لكن بديل ذلك لن يكون الآن إشعال حروب جديدة.

إنّ الأسابيع المقبلة، ولمسافة زمنية هي أقلّ من شهرين، ستظهر مدى حسم إدارة بوش لصراع الإرادات في حكومته، وهو في الحقيقة الآن صراع بين من يريدون خدمة المصالح الأميركية كما عبّرت عنها رؤية لجنة بيكر/هاملتون وبين من يعملون لصالح أجندة فئوية عقائدية قامت على مزيج من الأفكار والمصالح الخاصّة والتأثيرات الإسرائيلية.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)