قبل أسابيع عدة احتفل في لندن برفع الستار عن نصب تذكاري للزعيم الأفريقي الشهير نيلسون مانديلا تقديراً لدوره النضالي السلمي الرائد من أجل تحرير جنوب أفريقيا والدعوة الى السلام والحوار ونبذ العنف في العالم. وعبر رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون عن معاني المناسبة ودوافع التكريم بكلمات قليلة قال فيها: «مهما طال أمد العدوان فإن الحق سيظهر وينتصر».

وقبل أسابيع عدة احتفلت الهند بذكرى مرور 60 سنة على الاستقلال من الاستعمار البريطاني بتكريم زعيمها التاريخي المهاتما غاندي الذي قاد معركة التحرير بأسلوب «اللاعنف» واستطاع بدعوته السلمية ونضاله الدؤوب تجييش ملايين الهنود من أجل تحقيق الأهداف السامية بكل انضباط والتزام وتجنب إراقة نقطة دم واحدة.

وقبل اسابيع عدة تمكن أهالي قرية فلسطينية (بلعين) باعتصاماتهم واضراباتهم وتحديهم سلطات الاحتلال الغاشم من انتزاع حكم قضائي باستعادة أراضيهم المصادرة وتعديل خط جدار العار المسمى «الحائط الأمني» بعيداً من قريتهم.

وقبل سنوات عدة حقق الشعب الفلسطيني انتصارات متلاحقة وكسب ود واحترام ودعم الرأي العام العالمي وانتزع اعتراف العالم كله بهويته وحقوقه المشروعة وبينها حقه في إقامة دولته المستقلة بفضل انتفاضاته المباركة المتلاحقة وحقق أطفال الحجارة ما لم تحققه الجيوش الجرارة.

الأمثلة كثيرة والمعنى واحد وهو أن النضال له أوجه ووسائل عدة وأن الجهاد طريقه طويل وشاق لا يستثني وسيلة من اللسان الى القلب واليد، ومن الكلمة النابعة من الأعماق الى القوة التي لا غنى عنها في مطلق الأحوال لتدعيم الكلمة وتحقيق التوازن وردع العدوان. فالعمل السياسي بلا قوة، لا معنى له ولا نتيجة، والقوة بلا عقل ولا تخطيط ولا الأخذ في الحسبان كل الوقائع والظروف قد تؤدي الى الهلاك.

أما العنف الفوضوي والأعمال غير المبرمجة والممارسات البعيدة من التنسيق بين العرب فإن نتائجها وخيمة على الجميع، وقبل كل شيء على القضايا التي يناضلون من أجلها وهو ما شهدنا بعض فصوله وآثاره الضارة من خلال الإرهاب والتطرف.

بمعنى آخر ان العمل السياسي الجاد والحازم والمبرمج لا غنى عنه من أجل تحقيق الأهداف المرجوة في ظل التعقيدات القائمة في العالم والأخطار المحدقة بالمنطقة والمطامع الأجنبية بثرواتها ومحاولات الأطراف الإقليمية الهيمنة على مقاديرها وإدخالها في متاهات المحاور والتحالفات والمسالك الخطرة التي قد تتسبب بالفوضى وإثارة النعرات وإشعال نار الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية.

بالعقل والحكمة يمكن تجاوز الأخطار، وبالمرونة والسياسة يمكن حل الأزمات، وبالعمل على إطفاء نار الفتن وحل الخلافات الثنائية ونزع فتيل الأزمات الداخلية يمكن التمهيد لحل الأزمات الكبرى، وبالتنسيق والتعاون والتضامن يمكن إعادة بناء القوة العربية المهدورة والمستنزفة.

هذه الثوابت العقلانية يمثلها خير تمثيل النهج السعودي على امتداد السنوات والعهود. فلكل مقام مقال، ولكل زمن اسلوبه، ولكل شيخ طريقته، ولكل أزمة نهج للمعالجة، ولكل داء دواء. فالإعداد للقوة قائم عبر تعزيز القدرات الدفاعية الذاتية والاستعداد لكل طارئ، ودعم القوة العربية مشهود للمملكة العربية السعودية من جانب القاصي والداني، خصوصاً دول المواجهة: مصر وسورية والأردن مع الدعم الكامل للشعب الفلسطيني في مختلف المجالات من دون أن نغفل القرار الجريء الذي اتخذه الملك فيصل بن عبدالعزيز عام 1967 بدعم مصر وسورية بعد حرب حزيران (يونيو) ثم باستخدام سلاح النفط الذي هز العالم عام 1973 تتويجاً لانتصار السادس من تشرين الأول (اكتوبر). كما لا ننسى دعم الملك فهد بن عبدالعزيز طيب الله ثراه للدول العربية وللقضية الفلسطينية ثم لتحرير الكويت.

وعلى صدى هذا النهج سار الملك عبدالله بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير سلطان بن عبدالعزيز من أجل إيصال الأمة العربية الى شاطئ الأمان وسط بحر من العواصف والأزمات وفق خطة متعددة الجوانب تلخص بالنقاط الآتية:

* تعزيز القدرات الدفاعية وتزويد القوات المسلحة بأحدث انواع الاسلحة والمعدات لمواجهة الاخطار وهي كثيرة.

* تعزيز القدرات العربية بالدعم الدائم وتقديم المساعدات في أكثر من مجال.

* إيجاد حلول للأزمات العربية القائمة وتحقيق مصالحات بهدف نزع صواعق التفجير ورأب الصدع العربي ووقف نزيف الدم بين إخوة الدين والمصير الواحد.

وقد نجح الملك عبدالله في هذا المجال وحقق انجازات كبرى تمثلت في اتفاق مكة العراقي واتفاق مكة الفلسطيني (على رغم تعثره لكنه بقي ثابتاً ومعتمداً للحل ولحوار إخوة السلاح) واتفاق المصالحة السوداني وأخيراً اتفاق المصالحة الصومالي.

وينتظر أن يستكمل الملك عبدالله جهوده لتحقيق المزيد بصفته رئيساً للقمة العربية ولا سيما في لبنان حيث بذلت المملكة جهوداً جبارة لمنع الانزلاق نحو حرب أهلية ومحاولة إيجاد حلول للمشاكل المعقدة والمتشابكة محلياً وطائفياً ومذهبياً وعربياً وإقليمياً ودولياً.

* تعزيز الموقف العربي عبر الاتصالات الدولية المتتالية لكسب الدعم وحمل الدول الكبرى على التحرك من أجل إيجاد حلول للأزمات القائمة لا سيما أزمة الشرق الأوسط. فبعد إقرار مبادرة السلام التي أعلنها الملك عبدالله من جانب القمة العربية بدأ التحرك لحمل دول العالم على الاعتراف بها والعمل بموجب بنودها بصفتها أهم مبادرة للسلام الشامل والعادل، ولكونها ترسم خريطة طريق متكاملة لجميع الأطراف للخروج من النفق المظلم وإنهاء هذه المعضلة الإنسانية التي تهدد السلام العالمي وأمن العالم كله.

ويبدو أن الطريق بات ممهداً للأخذ بهذه المبادرة أو على الأقل اعتمادها كمبدأ اساسي وفاعل للحوار لا يقوم سلام من دونه ولا مجال بعدها لتنازل أو تهاون.

وقد تم التمهيد لتحقيق هذا الهدف عبر جهود متواصلة قامت بها المملكة خلال الأشهر القليلة الماضية نظراً الى ما تتمتع به من نفوذ وقدرة ودور في المنطقة والعالم، تمثلت في مروحة الاتصالات والزيارات المتبادلة التي قام بها العاهل السعودي وولي عهده الى دول العالم قاطبة من الصين الى اليابان والولايات المتحدة الى اوروبا، ومن المغرب الى إيران ومن باكستان الى تركيا ومختلف الدول الاسلامية والعربية، وتتوج هذه الايام بجولة اوروبية جديدة يقوم بها الملك عبدالله الذي سيصل الى بريطانيا بعد غد في زيارة رسمية يلتقي خلالها كبار المسؤولين بينهم رئيس الوزراء الجديد بعد جولة مماثلة توجت بزيارة فرنسا والالتقاء برئيسها الجديد نيكولا ساركوزي من أجل تجديد العلاقات وكسب الدعم لجهود السلام وللقضايا العربية الشائكة.

واللافت في هذه الجهود انها تسير على خطين متوازيين هما تأكيد رغبة العرب بالسلام وفق المبادرة العربية الموحدة كقرار استراتيجي واضح وحاسم ورفض المماطلة والتهاون والمناورات عبر دق نواقيس الخطر والتحذير من أخطار كبرى في حال عدم المسارعة الى إيجاد حلول جذرية وجدية، وهي أخطار لن تصيب العرب وحدهم بل تطاول الجميع ويصل لهيب نيرانها الى شتى أقطار العالم، كبيرها وصغيرها وبعيدها وقريبها.

ولا أخفي سراً إذا قلت ان الملك عبدالله وجه هذه التحذيرات والإنذار الى قادة الدول الكبرى لا سيما الولايات المتحدة عبر سلسلة رسائل واتصالات ومواقف حازمة وعنيفة في بعض الأحيان، يبدو انها بدأت تؤتي ثمارها من خلال المواقف المتقدمة لدول أوروبا وروسيا والصين والدعوة التي أطلقها الرئيس جورج بوش الى اللقاء او «المؤتمر الدولي» المزمع عقده الشهر المقبل للبحث في سبل حل الأزمة. ولا شك في أن الظروف الدولية الراهنة مواتية لإيجاد حلول جدية بعد عملية التجديد التي شهدتها الدول الأوروبية الكبرى في قياداتها الراغبة بتحقيق إنجاز ما على هذا الصعيد، وبعد تباشير عودة الحرب الباردة بين روسيا وأميركا في شكل خافت، ثم بسبب رغبة الرئيس بوش بتحقيق إنجاز ما في المنطقة قبل انتهاء ولايته حتى لا يرحل خائباً ملوماً ومتهماً بإشعال نار الحروب وجني الخيبات والفشل في العراق وغيره.

كما ان الأوضاع الاسرائيلية الداخلية مضطربة ومربكة في ظل قيادة إيهود أولمرت المشكوك بقدراتها وحكومته المتهاوية، وهو وضع يراهن البعض على أنه يتيح فسحة أكثر من الأمل بالتوصل الى حلول لأزمات المنطقة فيما يراهن البعض الآخر على ان هذا الضعف سيعرقل جهود السلام وينتهي الأمر بسقوط حكومة أولمرت والدعوة الى انتخابات عامة ترحِّل امكانات السلام سنوات أخرى قادمة... وحتى إشعار آخر. والأكيد ان أي نجاح لهذا اللقاء الدولي لن يتحقق، وسيدفن في مهده في حال عدم الأخذ في الاعتبار كل مكونات الحل ومشاركة جميع الأطراف وبينها سورية ولبنان الى جانب السلطة الوطنية الفلسطينية بعد رأب الصدع الفلسطيني وإعادة وصل ما انقطع بين «فتح» و «حماس» وبين قطاع غزة والضفة الغربية.

ولهذا لا بد من الأخذ على محمل الجد تحذيرات الملك عبدالله من مغبة التأخير في التوصل الى الحل الكامل، والأخذ في الحسبان دافع قيامه بدق نواقيس الخطر في مناسبات والتحذير بأن السعودية لن تحضر هذا اللقاء الدولي في حال لم يتم وضع تصور جدي ومتكامل لأهدافه ومراميه وجدول أعماله ومشاركة كل الأطراف فيه على قدم المساواة على أساس المبادرة العربية ومبادئ الشرعية الدولية. فصحيح ان الملك عبدالله يحمل معه في جولاته غصن الزيتون بتأييد عربي شامل لكنه يحمل في اليد الأخرى مواقف حازمة وأوراق قوة يلوّح بها في إطار التحذير من المخفي الأعظم.

فالمنطقة تقف على حافة بركان والشرر يتطاير من كل حدب وصوب والمطلوب خطة شاملة لإطفاء الحرائق، وسياسات حكيمة بعيدة من التهور وأساليب معالجة الرمضاء بالنار من خلال شن حروب جديدة وتأجيج نار الأزمات الراهنة للتحول الى حروب من العراق الى إيران ومن فلسطين الى لبنان، فهل ينصت العالم الى صوت العقل والحكمة، وهل يسارع الى تلبية نداء نواقيس الخطر قبل ان يفوت الأوان؟ إنما للصبر حدود!

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)