لم يكن رئيس الوزراء التركي وزعيم حزب العدالة والتنمية (أردوغان) يتمنى أن يجد نفسه بهذه السرعة أمام ورطة من النوع الذي يواجهه منذ أسابيع مع حزب العمال الكردستاني، هو الذي لم يكمل بعد احتفالاته بالفوز الكبير الذي حققه على التطرف العلماني وحلفائه من العسكر في الانتخابات البرلمانية، ومن ثم بمنح صديقه عبد الله غول منصب الرئاسة وصولاً إلى الاستفتاء على الدستور.
كانت العمليتين الكبيرتين اللتين نفذهما حزب العمال الكردستاني وأودتا بحياة عدد كبير من الجنود والمدنيين الأتراك قد خلقتا رأيا عاماً تركياً مناهضاً للحزب ونشاطاته، ما وضع حداً لتهرب أردوغان من مواجهة الموقف، وبالطبع خوفاً من منح العسكر فرصة استعادة نفوذهم القوي من جديد.
ليس هذا فحسب، فأردوغان لم يكن منحازاً من الأصل إلى الخيار العسكري في التعاطي مع معضلة الأكراد في تركيا، هو الذي يدرك كلفتها البشرية والاقتصادية في مواجهة ثوار يتحصنون في جبال بالغة الوعورة، فكان أن مال إلى الحل السياسي معترفاً أمام الملأ بوجود "قضية كردية" في تركيا، ما أكسبه تعاطفاً في مناطق الأكراد التي صوت الكثير من أبنائها لحزبه، فيما أفسح المجال لوجوه سياسية كردية كي تفوز في الانتخابات وتدخل البرلمان.
لعل ذلك هو ما دفع حزب العمال الكردستاني إلى التصعيد العسكري، فاندماج الأكراد في الحياة السياسية يهدد شعبية الحزب وخياره العسكري من دون أن يمنح الأكراد ما يصبون إليه من مكانة في المجتمع التركي، فضلاً عن أن يحققوا هدف الحكم الذاتي أو الانفصال.
لكن ذلك كله لم يكن كافياً لدفع الحزب نحو التصعيد العسكري بعد سنوات من الكمون إثر اعتقال زعيمه عبد الله أوجلان، ولولا شعور قيادته بتوفر الحاضنة والدعم من قبل أكراد العراق، إلى جانب إشارات أمريكية رافضة لأي هجوم تركي على معاقلهم، وربما مشجعة على التمرد، لما كان التصعيد، مع العلم أن قرار إحدى لجان الكونغرس باعتبار مذابح الأرمن على يد الدولة العثمانية جرائم ضد الإنسانية كان مجرد إشارة على هذا الصعيد ازدادت تأكيداً عندما رفضت واشنطن الخيار العسكري ضد حزب العمال، وإن جاء الرفض في سياق من الخوف على هدوء الوضع العراقي.
في ظل هذه الأجواء لم يكن ثمة خيار أمام أردوغان سوى التصعيد، فكان قرار البرلمان التركي بمنح الجيش صلاحية القيام بعمل عسكري، ومن ورائه جملة من التصريحات القوية من قبل أردوغان نفسه والرئيس غول ضد الحزب وفي مواجهة الضغوط الأمريكية، بل وفي سياق تهديد أكراد العراق من مغبة المضي في دعمهم للتمرد الكردي على تركيا.
هناك الكثير مما يعنينا في هذه القضية، إضافة إلى تعاطفنا مع الموقف التركي بقيادة حزب العدالة والتنمية، ورفضنا لمنطق الانفصال الذي يطرحه حزب العمال الكردستاني، وإن أكدنا على مقولة أردوغان المقرة بوجود قضية كردية تستحق المعالجة السياسية.
من أهم ما يعنينا هو مواقف برزاني وطالباني اللذين تجاوزا كل الحدود في الاستخفاف بالمحيط العربي والإسلامي، وبالطبع بقوة الدعم الأمريكي، وحين يرحبان وحدهما بقرار الكونغرس الداعي إلى تقسيم العراق، فذلك يعني أن برنامج الانفصال ما يزال معششاً في أدمغتهما رغم كل المغامرات البائسة التي دفع ثمنها الإنسان الكردي طوال عقود.
منطق التقسيم هو المنطق الأمريكي الإسرائيلي، وهو منطق لا يشمل العرب وحدهم، بل يشمل تركيا وإيران وعموم المنطقة، لأن ذلك هو السبيل الأمثل لفرض الهيمنة الصهيونية عليها، وهنا يتأكد للجميع أن أردوغان، ومهما حاول استرضاء أمريكا والغرب، فإنه سيبقى جزءً من هذا العالم الإسلامي المنذور لمنطق الشرذمة والهيمنة، وهو منطق لا يمكن مواجهته سوى بروح المقاومة والممانعة.