«الهويّة الثقافية العربية» كلغة وثقافة كانت موجودة قبل وجود الدعوة الإسلامية، لكنّها كانت محصورة بالقبائل العربية وبمواقع جغرافية محدّدة.. بينما العروبة ـ كهوية انتماء حضاري ثقافي ـ بدأت مع ظهور الإسلام ومع ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم وبنشر الدعوة بواسطة روّاد عرب..

هكذا أصبحت «العروبة الحضارية» هي الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري الذي أخرج الثقافة العربية من الدائرتين: العرقية والجغرافية إلى الأفق الحضاري الواسع الذي اشترك في صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب، وبالتالي خرجت الهويّة الثقافية العربية من دائرة العنصر القبلي أو الإثني، ومن محدودية البقعة الجغرافية (شبه الجزيرة العربية) إلى دائرة تتّسع في تعريفها لـ «العربي»، لتشمل كل من يندمج في الثقافة العربية بغضّ النظر عن أصوله العرقية.

ودخل في هذا التعريف معظم من هم عرب الآن ولم يأتوا من أصول عربية من حيث الدم أو العرق. ويؤكّد هذا الأمر تاريخ العرب القديم من حيث اعتبار الأقليات الدينية في المنطقة العربية نفسها كجزء من الحضارة الإسلامية، ومن حيث تفاعل الأقليات الإثنية (الإسلامية والمسيحية) مع الثقافة العربية باعتبارها ثقافة حاضنة لتعدّدية الأديان والأعراق.

إن الثقافة العربية هي المتبقّى الوحيد الآن كجامع مشترك بين العرب. والخطر عليها كوجود ليس فقط حصيلة ما يحدث الآن في بعض الأقطار العربية، كما أنّ هذا الخطر لم يبدأ فقط مع وجود الاحتلال الأوروبي للمنطقة في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بل هو بدأ مع سقوط الريادة العربية للعالم الإسلامي، وتسلّم السلطة العثمانية لدور كان أولى بالعرب الحفاظ عليه فأخذه منهم الجيش الانكشاري.

من هنا كانت بداية تدهور حال الثقافة العربية بغضّ النظر عمّا حملته هذه الثقافة (بعد انتهاء دولة الخلفاء الراشدين) من مفاهيم بعضها تناقض مع المضمون الأصولي للقيم الإسلامية. وقد انتهت قرون السيطرة العثمانية بمحاولة تتريك العرب في مطلع القرن العشرين، ثم ذهب الأتراك إلى ديارهم ليعلن كمال أتاتورك تخلي الأتراك أيضاً عن لغتهم وثقافتهم وتحويلها إلى الأحرف اللاتينية ونظم الحياة الغربية.

وكان من المؤمّل لدى الورثة الإنجليز والفرنسيين للتركة العثمانية، أن يتخلى العرب أيضاً عن لغتهم وثقافتهم وأن يستبدلوها (كما فعلت تركيا/أتاتورك) بالأحرف اللاتينية والثقافات الغربية، لكن الترابط العضوي بين لغة العرب ولغة القرآن الكريم، بين الوعاء الثقافي للعرب وبين مضمونه الحضاري الإسلامي، منع ذلك بشكل كبير، إضافة إلى الدور المهم الذي قام به العديد من الأدباء العرب ـ وكان معظمهم من المسيحيين العرب ـ الذين كانوا يحرصون على الثقافة العربية ويشتركون مع المسلمين العرب في صنع الحضارة العربية الإسلامية.

ورغم كل محاولات «الفرنسة» و«الأنجلزة» التي تمّت في النصف الأول من القرن العشرين.. ورغم كل مدارس التبشير الفكري والثقافي الغربية التي انتشرت في المنطقة العربية.. ورغم تجزئة المنطقة العربية بعد سقوط الحقبة العثمانية ومحاولة المستعمر الفرنسي والإنجليزي تغليب نمط الخصوصيات المحلية لأبناء الدول العربية على ثقافتهم العربية المشتركة... رغم ذلك كله، فشلت هذه المحاولات لعشرات السنين وإن كانت قد أضعفت دور الثقافة العربية وشوّهت مضمونها الحضاري في أكثر من مجال.

اليوم نجد الثقافة العربية أمام مفترق من الطرق: إمّا السير في طريق تقزيم الثقافة العربية وتغليب الخصوصيات المحلية فيها على الجامع المشترك بين عناصرها... أو ـ بل ربّما مع ـ «أمركة» مضامينها الحضارية في إطار ما هو سائد من شعارات «العولمة الأميركية». أي أمام الثقافة العربية الآن، تحدّيات التخلي عن الوجود (أفقياً) لصالح لهجات محلية وترسيخ لعادات وتقاليد خاصّة في كل بيئة عربية..

وفي الوقت نفسه مواجهة تحدّيات التخلي (عامودياً) عن الدور التاريخي للثقافة العربية المرتبط بالمضمون الحضاري الإسلامي الذي يشترك فيه كل العرب (بكل خصوصياتهم الدينية والوطنية والأصول العرقية) لصالح مضامين حضارية غربية تقودها الآن الثقافة الأميركية في معظم المجالات. وكما هناك تمييز بين وجود الثقافة ودورها، كذلك هناك تمييز بين وجود فكرة وبين الدعوة لها. وبما أن العرب هم الآن في حال من التمزق والصراعات، فإن ذلك ينعكس سلباً على الثقافة العربية ويجعلها أسيرة هذا الواقع المتخلف عموماً والممزّق واقعاً والعاجز دوراً.

ومهما كان هناك من أفكار جيدة في الساحة العربية، فإن وجود الفكرة وحده لا يكفي. فلِكي تتحول الفكرة إلى دعوة ناجحة، فإن أربعة عناصر مطلوبة لهذه الدعوة:

1 ـ وضوح الفكرة وسلامتها وانسياقها مع الواقع وانطلاقها من الأصول المبدئية للهوية الثقافية العربية ولمضمونها الحضاري، لا من الفروع التفصيلية الموجودة فيها.

2 ـ وجود الدعاة والمفكرين والمثقفين الذين يحملون هذه الفكرة وينسجم سلوكهم مع طرحهم الفكري، فلا تكون هنا مشكلة الانفصام بين الفكرة والتطبيق، ممّا يجعلهم ـ وبما يجب أن يتحلّوا به من كفاءة وقيم ومبادئ ـ نقطة جذب للفكرة نفسها.

3 ـ بناء مؤسسات متنوعة المجالات، متعدّدة الرؤى لأساليب العمل، ديمقراطية الأسلوب والبناء الداخلي.

4 ـ رفض استخدام العنف بكافة أشكاله في أسلوب الدعوة للفكرة والتعامل مع الظروف المحيطة بحكمة ومرونة من أجل محاولة تحسين هذه الظروف لتنسجم مع إمكانات الدعاة ومؤسساتهم.

إنّ التسمية المناسبة لهذه الفكرة/الدعوة هي (العروبة الحضارية) بما تعنيه هذه التسمية من حرص على الثقافة العربية وعلى مضمونها الحضاري، وأيضا بما يميزها عن طروحات كثيرة سابقة تشوّهت معانيها ومضامينها بسبب أزمة دعاتها ومؤسساتها!.

إن الشخص العربي هو الإنسان المنتمي للثقافة العربية أو لأصول ثقافية عربية. فالهويّة العربية لا ترتبط بعرق أو دين، ولا بموقف سياسي أو منظور أيديولوجي. إن العروبة هي تعبير عن الانتماء إلى أمّة لها خصائص تختلف عن القوميات والأمم الأخرى حتى في دائرة العالم الإسلامي. فالانتماء إلى العروبة يعني الانتماء إلى أمّة واحدة قد تعبّر مستقبلاً عن نفسها بشكل من أشكال التكامل أو الاتحاد بين بلدانها.

إن العرب هم أمَّة واحدة في الإطار الثقافي وفي الإطار الحضاري وفي المقاييس التاريخية والجغرافية (اشتراك في عناصر اللغة والثقافة والتاريخ والأرض) لكنّهم لم يجتمعوا تاريخياً في إطار سياسي واحد على أساس العروبة فقط. فالعروبة قائمة وجوداً كثقافة خاصة قبل الإسلام ثم كحضارة من خلاله وبعده لكنها لم تتجسد سياسياً بعد كأمّة واحدة، في إطار كيان سياسي واحد، وعلى أساس مرجعية العروبة كانتماء. إن الأرض العربية كانت تحت سلطة واحدة في مراحل من التاريخ، لكن على أساس مرجعية دينية إسلامية (الخلافة) وليس على أساس قومي عربي.

إن العروبة هي حالة انتماء إلى مضمون حضاري مميّز بعلاقته مع اللغة العربية، وتقوم على قاعدة الثقافة العربية، وهي رغم توفر عناصر تكوين الأمّة فيها، فإنها لم تصل بعد إلى حالة الكيان السياسي الموحد، ولم يحصل ذلك تاريخياً من قبل على أساس مرجعية العروبة فقط. وللوصول إلى مشروع الكيان الواحد أو الاتحادي تتوجب الأساليب المرحلية المتعددة شرط قيامها جميعاً على أساس ديمقراطي في الداخل وسلمي حواري في العلاقة مع الطرف العربي الآخر.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)