يتعامل باحثون مع النفط كحتمية تحدد وتحكم السلوك السياسي، بما فيه الحرب، مثل قانون. لا شك في أن النفط هو الدافع والمحرك الرئيسي للسياسات الامبريالية في المنطقة العربية. ولكنه لا يصنعها بل هي التي تصبغه بلونها. الامبريالية وسياسات الهيمنة تدفع بمسألة الطاقة ولكنها هي التي تحدد شكل التعامل مع هذه القضية.

يشخص مايكل كلير (مجلة نيشن عدد 5- 12نوفمبر/ تشرين الثاني) المرحلة ك”نهاية مرحلة البترولpetroleum age وبداية مرحلة عدم الكفاية “in sufficiency” وهو يكتب أن الولايات المتحدة باتت تتصرف على هذا الأساس معدداً مشاريع أبحاث الطاقة البديلة، واستحضار مصطلح “سوائل” l iquids للاستخدام بدلاً عن نفط، واندفاع الدول للاستثمار في ابحاث السيلولوز وفي صناعات تحويلية لنبتة الذرة إلى كحول إثيلي، مما يهدد بقية العالم برفع اسعار الخبز وغيره من المنتوجات.

ومع نمو اقتصادي عالمي بنسبة 5.4 في المائة، يلعب فيه اقتصادا الهند والصين دوراً رئيسياً، سوف تحتاج الدورة الاقتصادية العالمية لرفع إنتاج النفط ب5.2% سنوياً لملاقاة زيادة الطلب. يستهلك العالم حالياً 86 مليون برميل من النفط يومياً، وسوف يستهلك 96 ميلون برميل يومياً عام 2012 بعدها سوف تبرز صعوبة هائلة في زيادة الإنتاج لسد الحاجة. وحالياً يتلاقى العرض والطلب من دون احتياط للتخزين وهذا سبب رئيسي لارتفاع أسعار النفط، فكل ما يضخ يجد له مشترين فوراً، والطلب يفوق الضخ. كما أن العالم بدأ يدرك حجم احتياطي النفط المتبقي وحدوده.

ولا بد أن يكون مصدر هذا الارتفاع المطلوب في الدول التي تملك غالبية احتياط النفط في العالم. ويقع معظمها في مناطق غير مستقرة بنظر أمريكا، أهمها الشرق الاوسط وشمال إفريقيا وبعض الدول الإفريقية. وللوصول إلى زيادة كهذه، خاصة مع نضوب حقول كاملة في دول الأوبك، يتطلب الأمر فتح حقول جديدة وأعمال تنقيب وبنى تحتية تحتاج إلى استثمار مئات مليارات من الدولارات، وهي دولارات قلقة غير مطمئنة.

وإضافة للقدرة على الاستثمار ترى الولايات المتحدة انها الدولة الوحيدة القادرة على تأمين تدفق النفط إلى الدول الصناعية بالردع وبالتدخل العسكري المباشر، الأمر الذي برره مبدأ كارتر منذ العام ،1980 عندما أكد بعد الثورة الإيرانية التزام الولايات المتحدة الاستراتيجي لضمان عملية تدفق النفط من الخليج إلى اسواق الغرب حتى لو تطلب الأمر استخدام القوة... وقد استند بوش الأب إلى هذا المبدأ في حينه للتدخل في حرب الكويت. وهو المبدأ الذي برر أصلاً إنشاء قوات التدخل السريع وتأسيس قيادة المنطقة الوسطى.

الطفرة الاقتصادية وتزايد الطلب على النفط في فترة شح الطاقة والبحث عن “سوائل” مولدة للطاقة وارتفاع أسعار النفط المطرد تقوي ميل الولايات المتحدة للجوء إلى حروب النفط، أو التدخل المباشر للسيطرة على مصادره. وهي لا تنتظر أن تصبح الصين قادرة على تدخل كهذا، وذلك لحاجتها إلى هذه المصادر أكثر من أمريكا. وأمريكا ترصد التحولات في السياسات الخارجية الصينية والروسية. وكنا قد تطرقنا إلى حجم التسلح الأمريكي وميزانيته في المقال السابق.

وليس صدفة أن أياً من المرشحين الديمقراطيين للرئاسة لم يعلن أنه سوف يسحب الجيش الأمريكي من العراق حتى العام ،2012 أي خلال فترة رئاسته إذا فاز. لقد بررت الإقامة الأمريكية المديدة في كوريا والبالغة من العمر خمسين عاماً بالتمام والكمال بخطر كوريا الشمالية. وربما سوف تبرر في العراق بوجود إيران والخطر الإيراني. ولكن مع وصول سعر البرميل إلى تسعين دولاراً، ومنذ أن وصل إلى سعره الثمانين لم يبق سياسي في أمريكا يعاني من التردد والحرج بشأن النفط وتأمينه. لقد باتت حماية مصادر النفط، اي السيطرة عليها، مسألة إجماع يخترق الأحزاب ويحظى بشعبية.

تقوم شركات التعهدات الأمريكية الكبرى ببناء خمس قواعد عسكرية دائمة من النوع المتطور جداً (سوبر قواعد) خارج المدن في العراق. تتسع كل منها لعشرين الف قاطن. انها في واقع الحال ضواح امريكية محصنة في وسط الصحراء وبمطار مشغول جداً. وهي مزودة بكل ما يلزم الامريكي المتوسط، كما يتخيله البنتاغون وشركات المقاولات، من مطاعم الأكل السريع حتى ملعب الميني جولف ودار السينما. وتتسع هذه القواعد سوية إلى مائة الف جندي تقريباً مجهزين للتدخل الخاطف في أي مكان في العراق كقوة ردع أو قمع من دون ولوج شوارع اية مدينة، ومن دون احتكاك يومي بالعراقيين. هذه، إضافة إلى سفارة أمريكية تبنى في بغداد على نمط مبنى البنتاغون، كفيلة أن تؤشر لمقاصد بوش وجدية ما يقوله في أروقة البيت الأبيض عن بقاء في العراق على نمط كوريا وعلى نهج وزير دفاعه روبرت جيتس.

إذا كان هذا صحيحاً فيبدو أن كل ما نشر وينشر عن الغباء وسوء التدبير الأمريكي إنما كان سابقاً لأوانه. فإذا تولت حماية حكومة ضعيفة في عراق مفككٍ من دون أن تسمح بأن ينحل فعلاً، ومن دون أن تسمح بأن يتوحد، تكون أمريكا قد انجزت الظرف المثالي لاستمرار بقائها في العراق لغرض السيطرة على النفط: انفصال كلي لكردستان يغضب تركيا، وانفصال كلي للجنوب ينشئ قاعدة تأثير إيرانية، أما انفصال الوسط فقد يتحول إلى قاعدة للقاعدة كما ينمط المعلقون الأمريكيون توقعاتهم. أما وحدة العراق فتلغي الحاجة للوجود الأمريكي. من هذا المنظار وبأثر رجعي لا تبدو خطوات مثل حل الجيش واجتثاث البعث مجرد أخطاء تنم عن قلة تجربة، بل هي حلقات في خطة محكمة. هذه قراءة بأثر رجعي تنتشر حالياً بين خبراء مثل جيم هولت من “نيويورك تايمز” وتوماس باورز (“نيويورك رفيو أوف بوكس” 27 سبتمبر/ أيلول). وبموجب هذه القراءة فإن رغبة تشيني بشن حرب على العراق نشأت في فترته كرئيس طاقم المهمات لقضايا الطاقة من العام ،2001 أي أنها ولدت كاستنتاج من أزمة الطاقة بصدد ما ينبغي عمله بهذا الشأن. والأمر الوحيد الذي يجعل هؤلاء الخبراء يشككون في نظرية المؤامرة هذه رغم أنهم ألفوها بأنفسهم هو أن النتائج خرجت تماماً كما أريد لها أن تكون، أي أنهم يشككون بنظريتهم بأنفسهم لأنها محكمة أكثر مما ينبغي.

هذا رغم أنهم يعرفون أن ألان جرينسبان محافظ البنك المركزي الأسطورة بنظر الاقتصاديين كتب في مذكراته: “إنني حزين لأنه من غير المريح الاعتراف بأن حرب العراق كانت غالباً من أجل النفط”.

ويبدو السيناريو الأمريكي المتفائل هكذا: سوف تساعد الولايات المتحدة سيطرتها المباشرة على النفط العراقي على قدر من التحكم بالأسعار، ولعب دور مباشر داخل الأوبك، وسوف تقيد إيران اقتصادياً من ناحية قدرتها على الصرف على التسلح خاصة أن 80% من مصاريف حكومتها يمولها العائد من النفط. وسوف تمكنها من إدارة استثمار أمين يدر أرباحاً خيالية لا تقدر حتى مقارنة بنفقات الحرب في العراق.

هذا حلم من يؤمن بسحر السيطرة العسكرية على أكبر احتياطي نفط في العالم. احتياط النفط المعروف في العراق 115 مليار برميل. ويسود اعتقاد ان الاحتياطي الأكبر غير معروف، فبسبب الحصار الطويل يعتبر احتياطي العراق شبه مجهول، فالعراق اقل بلدان النفط تعرضاً للتنقيب. في العراق 2000 بئر نفط، في حين أنه في تكساس وحدها حفرت حوالي المليون. التقدير ان احتياطي النفط العراقي الفعلي يتراوح بين 200 إلى 300 مليار برميل. إذا صح ذلك، ينتج ان القوات الأمريكية تجلس حالياً على ربع احتياطي النفط في العالم.

حكومة اقليم كردستان وقعت وحدها على اتفاق لاستغلال النفط في الإقليم مع شركة “هنت” التكسانية التي يرأسها حليف وصديق شخصي لبوش. أما بالنسبة لبقية العراق فقد أعدت الادارة الامريكية اقتراح قانون تستعيد بموجبه الحكومة العراقية استغلال 17 حقل نفط من مجموع ثمانين، أما البقية فتخضع عملياً لشركات أجنبية لمدة ثلاثين عاماً، وهي غير مجبرة على استثمار جزء من العائد في الاقتصاد العراقي.

تبدو الخطة محكمة فعلاً. ولن نقترح كما يعظ كتاب اليسار في أمريكا أن يكون العلاج بدل الحروب هو التوفير في استخدام النفط لغرض الحفاظ على البيئة ولغرض خفض سعره، لأننا نعلم أن هذه طوباوية غير ممكنة التحقيق وتعتمد على وقف النمو في اقتصاديات رأسمالية متنافسة قائمة على النمو. ولكن السؤال المطروح هو التالي: ألا يبدو أن التدخل الامريكي والمقاومة وعدم الاستقرار كانت حتى الآن من أسباب ارتفاع اسعار النفط؟ يبدو ذلك فعلاً. ومن هنا نشتق سؤالا آخر: أليس من الممكن التوصل إلى اتفاقيات مصالح مع الدول المنتجة للنفط، والتي تنوي ان تبيع نفطها لا ان تشربه، تضمن بموجبه تدفق النفط إلى الدول الصناعية؟ طبعاً ممكن. وحتى مع صدام حسين كان التوصل إلى اتفاق كهذا ممكناً. وأخيراً، لكي تقوم امريكا بالسيطرة على بلد، أليس عليها أن تضمن حداً أدنى من الاستقرار للسيطرة عليه؟ نعم. ولكن القوة العسكرية الاحتلالية لا تضمن الاستقرار، ولا ينفع التفوق الأمريكي عندما تنفلت طاقات المجتمع الهدامة من دون دولة.

الامبريالية تدير الأزمة بأسلوب امبريالي. ولكن يمكن إدارة سياسات النفط وشحه بشكل مختلف. ولا بد من تدخل قدر كبير من الغباء وسوء الحساب. ولا شك في ان الرغبة بالسيطرة على منابع النفط قائمة، وأن الشركات الأمريكية من انتاج السلاح وحتى متعهدي الطعام الجاهز للجنود، ناهيك عن شركات المقاولات استفادت وتستفيد من الحرب. ولكن هنالك عوامل اخرى فعلت فعلها، منها ما هو إيديولوجي إلى درجة العمى عن رؤية واقع يجهله حاملوها أصلاً، ومنها العامل “الإسرائيلي” المطروق بكثرة والمتعلق بعملية صنع القرار الأمريكية فيما يخص هذه المنطقة. النفط نعم، ولكن التعامل مع النفط بسياسات هيمنة امبريالية وجهل، وتأثير “إسرائيل” والإيديولوجيا والآراء المسبقة تتفاعل جميعها لتنتج مستحضرات بوش القاتلة.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)