تمر العلاقة بين النظام السعودي والقبائل التي تقطن الجزيرة العربية بمرحلة حرجة، اهم ملامحها بروز قيادات قبلية تقليدية وتاريخية علي الساحة من جديد ليس لتجديد الولاء للاسرة الحاكمة السعودية بل لتعلن معارضتها علي مسيرة الحكم وانفضاضها عن النظام. منذ صيف عام 2006 خرجت اربعة شخصيات معلنة معارضتها للنظام من خلال منبر قناة الاصلاح والتي يديرها سعد الفقيه من لندن.

وقد كان من الممكن لهذه الشخصيات ان تنشئ منابر جديدة لها ولكنها آثرت الانضواء تحت خيمة واحدة وربما يرجع السبب الي كون هذه القيادات لا ترغب ان تصورها الآلة الاعلامية الرسمية وكأنها قيادات تطمح لاستعادة امجاد قبائلها او حكمها في مناطق مختلفة من الجزيرة العربية بل تصبو للانضواء تحت منبر واحد يعطيها الزخم المرجو ويبعد عنها صفة الفئوية او القبلية الضيقة. من هذه الشخصيات طلال الرشيد والذي له بعد في قبيلة شمر القاطنة في شمال الجزيرة العربية وتمتد الي مناطق في سورية والعراق والاردن وبعض دول الخليج. والشخصية الثانية هي ممدوح الشعلان من قبيلة عنزة والتي تدعي الاسرة الحاكمة الانتماء اليها وهي قبيلة ايضا ذات بعد جغرافي واسع في الشمال السعودي وسورية والاردن. وثالث هؤلاء مساعد الذويبي من قبيلة حرب الحجازية والتي هي ايضا تمتد الي مناطق شمالية. ومؤخرا ظهر فيصل الحثلين من قبيلة العجمان والتي تمتد مساحتها التاريخية من وسط الجزيرة العربية الي مناطق الخليج وخاصة الكويت.

والغريب في الامر ان معظـم هؤلاء المتبرئين من النظام السعودي يرتبطون بعلاقات مصاهرة مع افراد بارزين في الاسرة السعودية فكثير من نسائهم قد تزوجن في السابق من الملك عبد العزيز وابنائه وليسوا من المعدومين الباحثين عن حصص جديدة من الطفرة النفطية الحالية. وليس من الصدفة ان ينتمي هؤلاء الي مجموعات قبلية كانت في السابق من اشد المعارضين لفرض الهيمنة السعودية علي مناطق الجزيرة المختلفة، فقبيلة العجمان كانت لها صولات وجولات في مطلع القرن العشرين مع القيادة السعودية وقد ادت المعارك الطاحنة حينها الي قتل سعد بن عبد الرحمن آل سعود اخ الملك عبد العزيز، هذا بالاضافة الي فهد بن جلوي وهو من العائلة ذاتها اما قبيلة شمر فتاريخ صدامها مع النظام السعودي معروف وطويل يمتد الي القرن الثامن عشر حينما ادي هذا الصدام الي هجرة فروع من القبيلة الي سورية والعراق وما تبقي من القبيلة في الجزيرة العربية واصل المواجهة حتي عام 1921 والتي انتهت بزوال امارة حايل وانضمامها الي الدولة السعودية. وكذلك الشعلان الذين لم تنته سلطتهم علي الجوف الا بعد مواجهات مع النظام السعودي. اتبع هذا النظام اسلوبين معروفين في شق صفوف القبيلة. الاول هو الباس التوسع السعودي عباءة الدين مما ادي الي تبني بعض المجموعات القبلية هذا الخطاب من اجل تجييشها في سبيل المشروع السعودي وحربها بعضها لبعض حتي فقدت لحمتها، اما الاسلوب الثاني فهو استغلال النظام السعودي كون القيادة في قبيلة ما تكون عادة في بيت معين له تشعبات نسبية كثيرة فكان النظام يقتنص بعض الافراد من هذه البيوت ويجعل المشيخة او امارة القبيلة فيها مما يؤدي الي تشظي البيوت ذات القيادة التاريخية وبعد تطويع هذه البيوت او الافراد فيها استعمل النظام السعودي سياسة الزيجات الهادفة والتي تربط العائلة السعودية ببعض الفروع في بيوت المشايخ القبلية.

ومع قيام الدولة وتشعب مؤسساتها وجد هؤلاء انفسهم خارج اطار الدولة الحديثة ورغم ان بعض القبائل تم احتواؤها عن طريق مؤسسات عسكرية اولها جيش المجاهدين الا ان اندماج بعض القبائل ذات العداوة التاريخية مع القيادة السعودية قد تأخر بسبب عدم وجود الثقة بين القيادة السعودية وهذه القبائل. وقد انفجرت الصراعات بين هذه القيادة واكثر القبائل ولاء للمشروع السعودي وخاصة قبيلتي عتيبة ومطير واللتين كانتا الركيزة الاساسية التي اعتمد عليها النظام السعودي لنشر هيمنته علي اكثر المناطق حيوية بالنسبة لمشروعه وهي الحجاز ومنطقة حائل. وبعد ان ضمنت القيادة السعودية سيطرتها علي هذه المناطق قامت بتصفية اهم الشخصيات التي لعبت دورا مركزيا في بسط الهيمنة السعودية.

بعد هذه الحقبات الدامية في تاريخ الجزيرة الحديث نجد ان النظام السعودي ارسي دعائم حكمه علي ركيزة اساسية وهي اقصاء هذه المجموعات عن مؤسسات الدولة وادخالها في حلقات المحسوبية والعلاقات المشخصنة بين رموز الحكم والمجموعات القبلية وخاصة القيادية تاريخيا مستعينا بذلك بشبكة عنكبوتية من المصاهرات التي اعتمدت علي المرأة وقدرتها علي ربط مجموعات بشرية قد تكون متناحرة سابقا او متعاضدة.

ومن اجل تمتين العلاقات بين رموز الحكم وهذه المجموعات خصص النظام السعودي لافرادها وخاصة المرتبطين بعلاقات نسبية مع النظام مخصصات شهرية اعتبرها الكثير منهم تعويضات عن ما نهبه النظام من اموالهم وممتلكاتهم وديارهم خاصة بعد ان الغي النظام حقهم في استعمال مواردهم في ديارهم التاريخية والمناطق الجغرافية التي كانت تحت سيطرتهم.

لا بد ان نقف لحظة تأمل عند عودة هذه القيادات القديمة علي المسرح السياسي السعودي في القرن الواحد والعشرين وقدرتها المستقبلية علي ايجاد تحالفات جديدة قد تشكل خطرا علي النظام السعودي.

نعزو بروز هذه الاصوات اولا واخيرا لفشل النظام السعودي ايجاد مساحة مستقلة ديمقراطية كنظام برلماني منتخب يستوعب عن طريق الاقتراع الحر مثل هذه المجموعات القبلية. هذه المساحة هي وحدها الكفيلة ليس فقط بايجاد فرصة للمشاركة السياسية بل هي ايضا الخطوة الاولي لتحديث القبيلة وقيادتها حيث تخضع قيادة القبيلة نفسها للانتخاب وتتبعثر عن النمط الوراثي المعهود تقليديا. وفي المدي البعيد قد تبرز قيادات تستطيع ان تتجاوز حدود تمثيل القبيلة الضيقة لتصبح محاورا وطنيا قد تنتخب من قبل مجموعات لا تنتمي الي القبيلة ذاتها. عندها فقط نستطيع ان نرسي دعائم نظام حر ينتخب فيه الفرد الاصلح لتمثيله في مؤسسات وليس من له ارث تاريخي او سلطة تقليدية. لقد خنق النظام السعودي جميع المنافذ التي تؤدي الي مثل هذا التطور وكرس جهده وقدراته لمحاربة اي مجموعة تنادي باصلاحات جذرية قد تنقل البلاد الي مرحلة المؤسسات السياسية التي تضمن المشاركة الشعبية المفتوحة والتي قد تتطور في المستقبل محولة بذلك ابناء القبائل الي مواطنين لهم مشروع سياسي لا تقف ابعاده عند حدود القبيلة ذاتها بل تشمل حلقات اكبر بكثير من الولاء الي القبيلة وشيخها. المعارضة الجديدة من قبل هذه المجموعات القبلية ليست محاولة لاعادة امجاد قبيلة ما اذ يعلم هؤلاء ان القبيلة ذاتها لم تعد تلك الكتلة المتراصة المتلاحمة فقد طرأت تطورات اجتماعية وديموغرافية كثيرة علي تركيبتها وخضعت لعملية ابتزاز كبيرة من قبل النظام السعودي علي مر عقود طويلة مما يجعلها اقل قدرة علي العمل الجماعي المشترك. لا يريد النظام السعودي من القبيلة سوي تراثها وبعارينها يستعرضها في حفلات الابل وكذلك ألسنة شعرائها حتي يكسب بعدا اجتماعيا ورمزا هشا يغرسه في تراث الجزيرة العربية. ولكن يبدو ان المجموعات القبلية قد صحت ولم تعد تقتنع بتأجير تراثها او بيعه علي منصات مسابقات الابل او تدوينه في موسوعات الشعر النبطي. وكذلك نقول ان هناك شرائح قبلية مهمة لا تريد العودة الي حكم القبيلة الضيق والزعامات التقليدية والتي قد لا تمثل الا ذاتها وليس لها من الارث سوي تاريخها. في الجزيرة العربية جيل جديد يريد ان يمارس حقه في المشاركة السياسية الحرة بعيدا عن الولاءات الضيقة كالقبلية والطائفية والمناطقية. ممانعة النظام السعودي هي التي تزيد هذه الولاءات تأججا وتقطع الطريق علي هذا الجيل الجديد ان يمارس حقه في نقلة تاريخية تنتشل المجتمع من الانغماس في ولاءات النسب الي ولاءات الفكر والمصلحة الجماعية.

مصادر
القدس العربي (المملكة المتحدة)