لم تشكّل مشاركة سوريا في مؤتمر أنا بوليس مفاجأة كاملة، للمعنيين والمتابعين، ذلك أنها دأبت على إعلانها تمسكها بالسلام كخيار استراتيجي، وأنها معنية بتفعيل مسار المفاوضات لاستعادة أراضيها المحتلة عام 1967 (الجولان).

وفي الحقيقة فإن استئناف المفاوضات لم يكن مشكلة سوريا، في أي وقت، بقدر ما كان مشكلة أميركية وإسرائيلية. إذ دأبت إدارة البيت الأبيض، التي كان يخطط لها تيار «المحافظون الجدد»، على انتهاج سياسة قوامها استبعاد سورية، بدعوى عدم منحها «جوائز» على سياساتها الإقليمية، التي تراها هذه الإدارة مناهضة لترتيباتها الشرق أوسطية، والتي ترى فيها إسرائيل ممانعة للإملاءات التي تحاول فرضها على العرب، بشأن عملية التسوية على كافة المسارات.

معلوم أن الإدارة الأميركية، إبّان سيطرة التيار المذكور على سياستها الخارجية الشرق أوسطية، والتي كانت تعززت على خلفية حدث 11 سبتمبر (2001)، كانت تتبنى سياسة مفادها: 1) عدم الربط بين أزمات المنطقة، والتعامل مع كل واحدة على حدة بمعزل عن الأخرى.

2) الفصل بين مشكلات الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي، على اعتبار أن الأخير ليس له صلة بتلك المشكلات.

3) رفض إعطاء الأولوية لحل لقضية الفلسطينية على غيرها من الأزمات الشرق أوسطية. 4) اعتبار الأنظمة العربية السائدة مسؤولة عن التوترات والأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة، في محاولة لرفع مسؤولية إسرائيل، باحتلالها لأراض عربية وسياساتها العدوانية، عن هذه الأزمات.

5) انتهاج سياسة قوامها إصلاح أو تغيير الأنظمة السائدة على غيرها من قضايا وأزمات الشرق الأوسط، ويأتي ضمن ذلك مشروع «نشر الديمقراطية» الذي كانت طرحته إدارة بوش، بعد سبتمبر 2001.

بالنظر إلى كل ذلك يمكن القول إن النظام العربي، وضمنه سوريا، نجح في تعديل مسار السياسة الخارجية الأميركية، إلى حد ما، بحيث إنه استطاع وضع الصراع العربي ـ الإسرائيلي على رأس الأجندة الأميركية والدولية مجددا.

ولاشك أن هذه التحولات حصلت بفعل عوامل عدة (داخلية وخارجية) ضمنها إدراك إدارة بوش بأن سياساتها المذكورة لم تجلب لها النجاح، وأنها أضعفت من مكانة الولايات المتحدة في المنطقة، على صعيد الحكومات والمجتمعات، بسبب إخفاقها في العراق، وتنامي نفوذ إيران فيه وفي عموم منطقة الشرق الأوسط، هذا إضافة إلى تزايد نفوذ تيارات الإسلام السياسي، المناوئة للنظام العربي، وللسياسات الأميركية، في آن معا.

لكن جزءا مهما من هذه التحولات كان نتاج تفاعلات النظام العربي، التي التزمت صدّ تلك السياسة التي انتهجتها الإدارة الأميركية، والتي نجم عنها تداعيات خطيرة في الواقع العربي، من العراق إلى فلسطين، وكان للمانعة السورية، دورا في هذا المجال.

على ذلك يمكن الاستنتاج بأن سوريا حققت خرقا مهما على الصعيد الدولي، بمشاركتها في أنابوليس، حيث أقدمت الولايات المتحدة على مراجعة سياستها الشرق أوسطية، ويأتي ضمن ذلك تراجعها عن فكرة الفصل بين أزمات المنطقة.

وأيضا قبولها الربط بين أزمات المنطقة وقضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، كما قدمنا، مثلما اضطرت للتراجع عن سياساتها المتعلقة بمحاولاتها عزل سوريا، وبحضورها المؤتمر فإن سوريا أعادت توضيع قضية أراضيها المحتلة في قلب أجندة عملية التسوية في الشرق الأوسط.

حيث استجابت الولايات المتحدة لمطالبتها بهذا الشأن، كما لبت طلبها بشأن شكل دعوتها كطرف أصيل ومعني بالصراع العربي ـ الإسرائيلي، وليس على إنها مجرد عضو في لجنة المتابعة العربية.

من جهة أخرى، وعلي الصعيد الدولي أيضا، فإن حضور سوريا للمؤتمر بدا وكأنه بمثابة استجابة للأصدقاء والحلفاء الدوليين، وضمنهم روسيا وتركيا، كما بدا بمثابة تجاوب مع الانفتاح الفرنسي (والأوروبي) عليها، في الفترة القريبة الماضية، إزاء عديد من الملفات الشرق أوسطية.

وبديهي أنه ما كان في صالح سوريا تسجيل الغياب عن هكذا مؤتمر دولي، شاركت فيه 44 دولة، بمستوى وزير الخارجية أو وزير؛ ضمنهم جميع وزراء خارجية الدول الأعضاء بمجلس الأمن، وألمانيا وكندا واليابان، ودول إسلامية مثل تركيا وماليزيا وأندونيسيا.

على الصعيد العربي يمكن القول إن سوريا استطاعت تحصين مشاركتها في المؤتمر ضمن إطار حاضنة عربية، أي وفق الإجماع المتحقق في قرار وزراء الخارجية العرب (في اجتماعهم في مقر جامعة الدول العربية في القاهرة)، بحيث شارك في مؤتمر أنا بوليس ممثلون عن 16 دولة عربية، بالإضافة إلى عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية.

والواقع فإن حضور تلك المؤتمرات لا يفترض مسبقا جني مكاسب سياسية مباشرة أو فورية منه، فالعلاقات السياسية الدولية لا تفترض ذلك سلفا.

لكن يمكن القول ان حضور سوريا كان أفضل لها ولقضيتها، وللموقف العربي، من عدم الحضور، الذي لا يفيد شيئا، إلا في تسجيل موقف لفظي، بل وربما يضر بسوريا وبمكانتها، وبقدرتها على طرح قضيتها العادلة والشرعية مستقبلا.

وكانت سوريا خلال الفترة الماضية عزّزت مكانتها كدولة إقليمية بالغة الأهمية في عديد من الملفات، من لبنان إلى فلسطين إلى العراق، حيث باتت مركزا لعديد من التحركات السياسية والدبلوماسية، من قبل القادة العرب، أو مبعوثيهم على أكثر من مستوى، وهي تصرفت بروح من المسؤولية والتوازن في كل هذه الملفات.

وضمن ذلك عدم سماحها بعقد مؤتمر لفصائل المعارضة الفلسطينية في دمشق. معلوم أن هذه الفترة شهدت انفتاحا فرنسيا (وأوروبيا) ملحوظا على سوريا، وهو ما ينبغي عليها استثماره وترسيخه، بإرسال إشارات أو رسائل مؤاتية من قبلها.

كما شهدت هذه الفترة تطورا بارزا في الجهود الروسية والتركية، لجهة مساندة عدالة وشرعية قضية سورية، بشأن سعيها لاستعادة أراضيها المحتلة في عدوان حزيران 1967، وهو ما أثمر في ملتقى أنابوليس عن الوعد من قبل الإدارة الأميركية للقيادة الروسية، بإمكان عقد مؤتمر «أنابوليس» ثان في روسيا، بعد أشهر معدودة، استجابة لمطلب سوريا بشأن طرح قضية أراضيها المحتلة، في هذا المنبر الدولي.

بالمحصلة من الصعب التكهن بالتطورات أو بالتداعيات التي ستنجم عن هذا الحدث الدولي، على الصعيد السوري، أو الفلسطيني، كما على الصعيد الإقليمي، لكن ما يمكن الجزم به هو أن هذا الحدث فتح مسارا جديدا، في عملية التسوية، وفي العلاقات العربية ـ الإسرائيلية.

وهذا ما يمكن أن تفصح عنه الأيام أو الأسابيع القليلة المقبلة، لكن هذا المسار، على الأرجح، سيكون مرتبطا بالتطورات الدولية والإقليمية، التي يمكن أن تحصل، وخصوصا بشأن تطورات الصراع على الشرق الأوسط، والترتيبات الإقليمية الجديدة فيه.

كما أن هذا الأمر سيرتبط بشكل أوثق بمدى قدرة، أو بمدى حسم الإدارة الأميركية أمرها، لجهة الضغط على إسرائيل وفرض تحولات سياسية فيها، تكون مؤاتية لعملية التسوية، على مختلف الجبهات، وعدم تكرار تجربة تضييع الوقت، التي حصلت منذ مؤتمر مدريد (1991).

ثمة مؤشرات عديدة، دولية وإقليمية، تفتح على إمكان مزيد من الانفتاح على سورية، وأيضا على إمكان استئناف المسار التفاوضي بين سوريا وإسرائيل، وضمن هذه المؤشرات الوضع المعقد للمفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية، واستحقاقاتها الصعبة على الطرفين المعنيين.

والرغبة الدولية والإقليمية بشأن تشجيع سوريا على الانخراط في سياسات تبعدها عن خط التطرف إلى الاعتدال. وتحول الإدارة الأميركية عن سياسة التدخل والابتزاز والتهديد لتغيير النظام إلى مجرد محاولة تغيير سياسات في النظام.

يضاف إلى كل ذلك توفر وضع عربي يرغب باحتضان سوريا، ويتبنى طرح قضيتها العادلة والمشروعة في المحافل الدولية، وتوفّر وضع دولي يسند ظهرها، من روسيا إلى عديد من الدول الأوروبية إلى تركيا. وبديهي أن كل هذه التطورات بحاجة لخطوات مقابلة من سوريا، فالعلاقات الدولية مبنية على موازين القوى، وعلى الأخذ والعطاء، والخطوات المتبادلة.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)