لم تكن قضية ’فتاة القطيف’ القضية الأولى التي تثير فيها أحكام القضاء السعودي انتقاد المنظمات الحقوقية، العربية والدولية.

أثارت الأحكام القضائية الصادرة في ما بات يعرف في وسائل الإعلام بقضية "فتاة القطيف" جدلاً محلياً وخارجياً، وأعادت تسليط الأضواء مجدداً على النظام القضائي في المملكة العربية السعودية. ويأمل ناشطون حقوقيون في أن يفضي احتدام النقاش وارتفاع الأصوات الدولية الضاغطة على السعودية بشأن القضية إلى المساعدة في إصلاح النظام القضائي في البلاد.

ففي أكتوبر/تشرين الأول من عام 2006 حكمت محكمة القطيف العامة على فتاة سعودية تبلغ من العمر تسعة عشر عاماً تعرضت للاغتصاب من قبل سبعة شبان سعوديين بتسعين جلدة بسبب ارتكابها "خلوة غير شرعية" مع رجل لا يمت لها بصلة قربى، وحكمت على الجناة بالسجن مدداً تتراوح بين سنة واحدة وخمس سنوات.

إلا أن المحكمة نفسها أعادت النظر في القضية في نوفمبر/تشرين الثاني - بطلب من مجلس القضاء الأعلى بعد أن كسب محامي الفتاة حكماً بالاستئناف - فغلَّظت عقوبة الجناة فأصبحت مدد سجنهم تتراوح بين سنتين إلى تسع سنوات، ولكن المحكمة شددت أيضاً العقوبة التعزيرية على الفتاة المغتصبة، فحكمت عليها بالسجن ستة أشهر وبمائتي جلدة.

كما قامت المحكمة بالتضييق على محامي الفتاة، الناشط الحقوقي المعروف عبد الرحمن اللاحم، فمنعته من حضور جلسة المرافعة ومن الحصول على نسخة من ملف القضية، وصادرت ترخيص مزاولة مهنة المحاماة الخاص به، بدعوى أنه "سعى إلى التأثير على المحكمة"، من خلال التحدث إلى وسائل الإعلام حول تفاصيل القضية.

ومثلما أثار الحكم الجديد للمحكمة سخطاً واسعاً داخل المجتمع السعودي، فقد ووجه بانتقادات دولية حادة، فإلى جانب انتقاد المنظمات الحقوقية الدولية للحكم، وفي مقدمها منظمة "هيومان رايتس ووتش" التي دعت العاهل السعودي إلى "التدخل شخصياً لإسقاط التهم بحق الفتاة،" قررت الحكومة الكندية الاحتجاج رسمياً لدى الحكومة السعودية بشأن الحكم الصادر على الفتاة، الذي وصفته الوزيرة الكندية المسؤولة عن وضع المرأة جوسيه فيرنر بأنه "همجي."

كما نددت واشنطن بالحكم، وطالب عدد من السياسيين الأمريكيين الرئيس جورج بوش بالضغط على العاهل السعودي لإلغاء الحكم على المرأة "الضحية."

مشكلة قضاء لا قضاة فقط

فعلى سبيل المثال، قامت محكمة في مدينة الجوف، في أغسطس/آب 2005، بالتفريق بين زوجين قسراً بسبب "عدم الكفاءة بالنسب"، في الحكم الصادر في القضية التي رفعها الأخوة غير الأشقاء للزوجة بعد موت أبيهم الذي وافق على هذه الزيجة، وقامت محكمة التمييز بالرياض بتأكيد الحكم في يناير/كانون الثاني من عام 2006.

وقد لقي حكم المحكمة استهجان الرأي العام السعودي، وأنكره علماء مسلمون آخرون واصفين إياه بأنه "لا يستند إلى أحكام الشريعة الإسلامية،" بل إلى "أعراف قبلية."

وانتقدت منظمة "هيومان رايتس ووتش" الحكم، ودعت الملك عبد الله إلى إحالة القضية إلى المجلس الأعلى للقضاء "لتصحيح الحكم غير العادل."

بل إن المسؤولين السعوديين بإدارة المنطقة الشرقية قاموا لاحقاً باحتجاز المرأة وابنها بسجن الدمام العام، ثم في مركز احتجاز تابع لوزارة الشؤون الاجتماعية، لأنها لم ترغب في العودة إلى أخوتها الذين تخشاهم بسبب سوء معاملتهم لها. ولم تكتف السلطات بهذا بل إنها مارست ضغطاً على الزوج لعدم التحدث لأحد إطلاقاً عن طلاقه القسري.

وفي قضية أخرى أثارت ضجة إعلامية في السعودية، قامت محكمة تبوك الكبرى في يونيو/حزيران الماضي بتبرئة ثلاثة عناصر تابعين لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من تهمة التسبب بوفاة المواطن السعودي أحمد البلوي في أثناء التحقيق معه داخل أحد مقرات الهيئة في تبوك للاشتباه بدخوله "خلوة غير شرعية" مع إحدى السيدات.

ولم تسلم إجراءات المحاكمة وأسانيدها من الشبهة والتشكيك، ما دفع المحامي الذي يمثل عائلة المتوفى إلى التأكيد أنه سيقدم اعتراضاً على الحكم الذي أصدرته المحكمة.

وهذه القضايا وغيرها تسند الرأي القائل بأن المشكلة لا تكمن في القضاة السعوديين فقط، إنما هي تتصل بمؤسسة القضاء ذاتها، الأمر الذي يعني أن النظام القضائي برمته يحتاج إلى إصلاح جذري.

مثالب النظام القضائي الحالي

من الانتقادات التي توجه للنظام القضائي السعودي، أنه يفتقر إلى الشفافية، والضمانات الكفيلة بإجراء محاكمات عادلة، ويوصف كذلك بأنه متخلف عن الأخذ بالتشريعات الحديثة وعاجز عن التعامل مع الحياة المعاصرة.

وكانت الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان (وهي منظمة أهلية مرخصة من قبل الحكومة) قد رصدت في تقريرها الأول عن حقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية عام 2006، انتهاكات لضوابط المحكمة العادلة، منها: عدم المساواة بين الرجل والمرأة في بعض الحالات؛ وعدم الالتزام بحق المساواة في التقاضي من تمييز بين الخصوم أو تمييز بين المواطن السعودي وغيره؛ وعدم المساواة بين المتهمين من ناحية العقوبات الصادرة ضدهم بحيث يكون هناك أكثر من عقوبة مختلفة مع توحد الجرم المرتكب؛ وعدم التقاضي العلني، حيث يتم اللجوء إلى سرية الجلسات.

كما أشار التقرير إلى ظواهر سلبية آخرى في الجهاز القضائي، منها: طول مدة نظر القضايا أمام المحاكم، وعدم تمكين المتهمين أحياناً من حقهم الاستعانة بمحامين، وقلة عدد القضاة مقارنة بعدد السكان وعدد القضايا (ففي المملكة أربعة قضاة لكل مائة ألف نسمة، وهذا يقل كثيراً عن المعدل العالمي الذي هو 26 قاضياً، كما يقل عن المعدل في دول الجوار).

وكان الإصلاحي الدكتور عبدالله الحامد قد أشار إلى أن المشكلة الأولى الكبرى في القضاء السعودي هي إطلاق عنان القضاء في الاجتهاد وعدم تقنين الأحكام القضائية أو تحديد العقوبات التعزيرية التي "تتراوح بين ضربة سوط وضربة سيف،" حسب تعبيره.

فنظراً إلى غياب المرجعيات القانونية يملك القضاة صلاحيات مطلقة لإصدار الأحكام وفقاً لاجتهاداتهم الخاصة، بالاستناد إلى المرجعية الإسلامية.

إلا أن منتقدي النظام الحالي يشيرون إلى أن المرجعية الإسلامية واسعة وفضفاضة وتحتاج إلى مساطر قانونية محددة وواضحة، بحيث لا تختلف الأحكام الصادرة للتهمة نفسها بين محكمة وأخرى.

ويشير الحامد إلى مشكلة أخرى يعاني منها القضاء السعودي وهي الإخلال بحقوق الإنسان، ولاسيما في مجال حرية الرأي والتعبير، وخصوصاً أن القضاة السعوديين يفتقرون إلى الثقافة الحقوقية المعاصرة.

وقد انتقدت المنظمات الحقوقية الدولية مخالفة إجراءات التقاضي في السعودية لأبسط المبادئ المقرة في قوانين حقوق الإنسان، إذ إن القضاة ينكرون أحياناً على الأفراد حقهم في التمثيل من قبل محامي، ويمنعون المحامي في أحيان كثيرة من الاطلاع على تفاصيل القضية والتحقيق، كما حصل مع المحامي اللاحم في قضية "فتاة القطيف."

إلى جانب تجاهل القضاة إصدار الأحكام كتابياً، حتى في القضايا التي يُحكم فيها بالإعدام، وفقاً لـ "هيومان رايتس ووتش."

ومن جهة ثانية، فإن المرأة السعودية تشعر بأن النظام القضائي يقوم باضطهاد مضاعف لها، فالقضاء لا يقر بولاية المرأة على نفسها، إذ إنها "لا تملك حق تمثيل نفسها أمام المحكمة بدون موافقة ولي أمرها وحضور محرم معها."

ووفقاً للناشطة النسائية وجيهة الحويدر فإن القضاء السعودي "يعد المرأة جزءاً من ممتلكات ولي أمرها،" حسب تعبيرها.

وعرَّضت الحويدر بسوء المعاملة التي تلقاها المرأة في المحاكمات، ومما تذكره في هذا الصدد أن القضاة يمتنعون عن مخاطبة المرأة مباشرة، فوفقاً لها "لا يخاطب القضاة إلا أقارب النساء من الذكور."

وكانت صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، والمملوكة لأحد الأمراء السعوديين، قد نشرت تحقيقاً يفيد أن انتحال شخصية المرأة أمام المحاكم الشرعية أمر شائع، فنتيجة لعدم وجود نساء ضمن هيئات المحاكم وخلو المحاكم من أماكن محددة للتثبت من هوية المرأة، يستغل كثير من المحارم هذه الثغرة فيستولون على أملاك المرأة وعقاراتها بالتزوير وانتحال الشخصية.

واعتبرت هتون الفاسي، المدرّسة في جامعة الملك سعود بالرياض والناشطة في مجال حقوق المرأة، أن السعوديات أيضاً "يعانين من غياب قوانين مكتوبة، ومن كون الأحكام متروكة لتقدير القضاة."

خطوات إصلاحية .. ولكن

في شهر أكتوبر/تشرين الأول الفائت أصدر الملك عبد الله بن عبد العزيز مرسوماً ملكياً صادق فيه على نظام جديد للقضاء وديوان المظالم (المختص بفض النزاعات التي تكون الإدارات الحكومية طرفاً فيها)، والذي يأتي في إطار مشروع متكامل يطلق عليه اسم "مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتطوير مرفق القضاء."

ونص المرسوم على تخصيص ما يقرب من ملياري دولار أمريكي لتدريب القضاة وبناء محاكم جديدة وإعادة هيكلة للنظام القضائي الحالي المعمول به في المملكة منذ ما يزيد على ربع قرن.

وإلى جانب المحاكم العامة، أقر النظام الجديد إقامة محاكم متخصصة كالمحاكم الجزائية، ومحاكم الأحوال الشخصية، ومحاكم للنزاعات العمالية، وأخرى للقضايا التجارية.

ولأول مرة، أدخل النظام الجديد إلى جانب محاكم الدرجة الأولى، محكمة استئناف، كما نص النظام على تشكيل محكمة عليا (التي تقابل محكمة النقض).

وقد رحب بالنظام الجديد نخب سياسية وأكاديمية، وأملوا أن يسهم في تعزيز سيادة القانون، وتحسين وضع حقوق الإنسان، وتحديث قطاع القضاء في البلاد، فقد أشاد رئيس موقع الوسطية في الإسلام الشيخ محسن العواجي بالقانون الجديد، ووصفه بأنه "نقلة نوعية في تاريخ القضاء السعودي" (نقلاً عن "قدس برس").

إلا أن آخرين شككوا في إمكانية أن يؤدي النظام الجديد إلى إحداث فرق جوهري في القضاء السعودي في ظل استمرار الغموض الذي يحيط في المرجعيات القانونية التي يستند إليها القضاة في إصدار أحكامهم.

واعتبر بعض المحللين أن المشكلة تكمن في هيمنة رجال الدين "المحافظين" على القضاء، إذ إن معظم القضاة يأتون من كليات الشريعة والدراسات الإسلامية التي يسيطر عليها التيار التقليدي، كما أن المجلس الأعلى للقضاء، الذي يمثل السلطة الإدارية المكلفة بالإشراف على القضاء والقضاة والمسؤولة عن إنتاج القضاة وتعيينهم، بيد "جماعة سلفية متعصبة،" وفقاً لعبد العزيز الخميس رئيس المركز السعودي لحقوق الإنسان بلندن.

لذا اعتبر الخميس أن إصلاح القضاء يتطلب "تحرير القضاء نهائياً، وفتح أبوابه أمام المؤهلات العلمية لطلاب القانون من مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية."

كما أن العواجي نفسه يعتبر أن ترجمة الإصلاحات الجديدة على أرض الوقائع تحتاج إلى "سنوات طويلة،" فبرأيه لابد من "إصلاح تعليمي ينسجم ومتطلبات المرحلة القضائية الجديدة، لا سيما وأن الواقع الحالي للقضاء لا يستوعب هذه الإصلاحات."

ويعوِّل بعض الإصلاحيين على أن يقوم الملك عبد الله بتعيين شخصية إصلاحية في منصب رئيس المحكمة العليا، ويشيرون إلى أن مثل هذا التعيين قد يشكل خطوة عملية في طريق الإصلاح.

وعلى أي حال، يرى مراقبون أن الإصلاح الحقيقي للقضاء السعودي لا يمكن أن يتم بمعزل عن الإصلاح الشامل في المملكة، ولاسيما في الإطار السياسي والاجتماعي والتعليمي، لذا فإن القضاء السعودي - برأيهم - لن يشهد تغيرات نوعية في في الفترة القريبة على الأقل.

وفي نهاية المطاف، لا يمكن التقليل من أثر وضع أحكام القضاء السعودي تحت مجهر الرأي العام، المحلي والدولي، فمثل هذا الأمر يخلق ضغطاً على مؤسسة القضاء نفسها لإجراء تصحيح ذاتي في واقعها، كما يشكل ضغطاً إضافياً على الدولة للتعجيل بإصلاح جهاز القضاء.

وكان وكيل دفاع فتاة القطيف، والناشط في مجال حقوق الإنسان المحامي اللاحم، قد أعرب عن أمله في أن يؤدي الصراع الحالي الذي تفجر إثر إدانة الضحية، بجلدها وسجنها، إلى المساعدة في إصلاح النظام القضائي في البلاد.

وقال في مقابلة مع شبكة CNN: "أظن أن ما نمر به حالياً سيمهد إلى قيام نظام قضائي أكثر حداثة سيستفيد منه جميع المواطنين."

أما هتون الفاسي فعلقت بأنه "من الجيد أن القضية (فتاة القطيف) اكتسبت طابعاً دولياً،" موضحة أنه "من العار أن تبقى مثل هذه القضايا طي الكتمان، فنحن أمام حكم حوَّل الضحية إلى جانية."

ويبدو أن "تدويل" قضية فتاة القطيف آتى أكله، ففي سبيل التخفيف من حدة التوتر الدولي بشأن القضية، صرح وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، لوكالة الأنباء السعودية، خلال مشاركته في مؤتمر "أنابوليس" للسلام في الولايات المتحدة، أن "القضاء السعودي سيعاود النظر في هذه القضية."