"إننا ننهض عن مائدة العمر ولم نشبع تركنا فوقها منسف أحلام نحن أكملنا مدار العمر فرسانا وقد متنا شبابا.."

"إننا ننهض عن مائدة العمر ولم نشبع

تركنا فوقها منسف أحلام

نحن أكملنا مدار العمر فرسانا

وقد متنا شبابا.."

هو "آخر شعراء اليقين القومي.." كما وصفه البعض حينما غادرنا قبل ثلاث سنوات وفي هذا الشهر بالذات.. هو ممدوح عدوان الذي أمضى ثلاثة وستين عاماً فوق مائدة العمر ولم تمكن كافية لتعبر عن حياته وأحلامه الرحبة الواسعة.. لم تكن كافية للتعبير عن مقدار حبه للحياة ودفاعه عنها..

ثلاثة وستون عاماً يقابلها إنتاج غزير من ثمانين كتاباً في الشعر والمسرح والرواية والترجمة والدراما التلفزيونية، كلها لم تكن تكفيه ليقول كل ما يريد قوله..

كان ممدوح عدوان نموذجاً حياً لتلك الطاقة الهائلة التي لا تنضب ولا تعرف هدوءاً أو توقفاً.. قال كلمته في الشعر، وفي المقالة الصحفية، وفي الترجمة، وفي المسرح، وفي الرواية، وفي الدراما التلفزيونية، ولم يكن ليرتوي..

كان يحس أن كل هذه الأدوات لم تكن كافية للبوح بكل ما يعتمل في نفسه من أسئلة وعلامات استفهام وهواجس ومخاوف، وكأنما كل مساحات التعبير وأدواتها تضيق به ولا تتسع لتطلعاته، لذلك كان يتمنى لو أنه يستطيع أن يعزف ويرقص ويغني.

قال ذات مرة إنه عندما يكتب للمسرح، يكتب بلغة المسرح وينسى أنه شاعر، وعندما يكتب المقالة الصحفية، يكتبها بلغة الصحافة وينسى أنه شاعر ومسرحي، ولكنه كان يضيف أنه على يقين من أن كل ما يكتبه لا يخلو من مسحة شعرية، ولأنه كان كذلك ظل حتى آخر لحظة من حياته يقبع في الصفوف الدفاعية الأولى عن الحياة، لإيمانه في أن الكتابة في حد ذاتها هي طريقة حياة، وهي أداة مقاومة ورفض للفساد والهزيمة.

كانت لديه رغبة جارفة في أن "يشبع"، ولذلك كان يكتب بنهم وشراهة محاولاً اللحاق بكل شيء قبل أن يسرقه العمر.. يلتقط التفاصيل بحرفية عالية وبعين متبصرة نافذة ناقدة، ليقدمها لنا أسئلة ومعانٍ كبرى مليئة بالدهشة والمفارقات.. والسخرية أحياناً.

حتى حينما داهمه المرض وبدأ يلتهم جسده لم يسمح له بالاقتراب من فكره وعقله وروحه.. لم يستسلم ولم يترجل عن صهوة قلمه الذي كان يتسلح به ويرى فيه وسيلة لمهاجمة المرض أحياناً، وتجاهله والاستخفاف به والسخرية منه أحياناً أخرى:

"أموت..

وقد نزفت مخاوفي،

ولم يبقَ مني غير جلد فارغ

قد صار كيساً فيه بعض عظام.."

يستوي المبدعون والناس جميعاً أمام الموت، فلا فرق بين هذا أو ذاك، ولكن ميزة المبدعين أنهم، ورغماً عنا، يقتحمون مجالسنا، ويقتحمون ذاكرتنا ويحتلون مساحات منها، ويشكلون حضوراً آسراً بهياً دائماً فيها..

ممدوح عدوان، لاشك واحد من هؤلاء، إلا أنه يضيف إلى نفسه ميزة أخرى، فعلى الرغم من أنه لم يرتوِ ولم تكفيه كل أدوات التعبير ولم "يشبع"، إلا أنه ترك لنا مؤونة كبيرة من الأسئلة التي ما تزال تنتظر الأجوبة.. ترك لنا مخزوناً هائلاً من المشاكسة والاحتجاج والرفض والصراخ.. وحب الحياة!!.