أكد المدير العام لوكالة الطاقة الذرية محمد البرادعي أن عبدالقدير خان وشبكته «النووية» ساعدا ليبيا وإيران. وأعرب في الجزء الثاني من حوار مطول مع «الحياة»، عن خشيته من حدوث «تزاوج بين السلاح النووي الباكستاني والعقيدة» من شأنه أن «يدمر أصحابها وأصحاب العقائد الأخرى».

وكشف البرادعي أن شبكة خان «عابرة للمحيطات» وضمت ثلاثين شركة ولها «فروع إقليمية تجمع في دبي أجزاء صنعت في تركيا وجنوب أفريقيا وماليزيا وسويسرا وألمانيا». وأقر بأنه لم يرَ خيطاً يربط عبدالقدير خان بـ «طالبان» أو «القاعدة»، لكنه أشار الى مساهمة خان في تأسيس البرنامج النووي الليبي الذي «كان في المهد»، وزيارته دولاً عربية و «عرض مساعداته لأسباب عقائدية».

وتحدث البرادعي عن دوافع شجعت صدام حسين على بناء «مفاعلات ضخمة جداً تحت الأرض... لإعادة بناء البرنامج النووي»، معرباً عن اقتناعه بأن صدام كان سيواصل برنامجه لصنع سلاح نووي لولا حرب 1991.

كما تطرق المدير العام الى لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرييل شارون، منوهاً بأهمية هذا الاجتماع لأن شارون أعلن للمرة الأولى بعده «استعداده للحديث عن منطقة منزوعة السلاح النووي في الشرق الأوسط».

وكشف البرادعي أن السلطات السوريـة لم تسمح لوكالة الطاقــة بتفقــد الموقع الذي تعـــرض لضربة إسرائيلية، لافتـــاً الـــى أن الوكالة «لا تملك أي معلومات عن برنامج نووي سوري».

وزاد أنه يتلقى تهديدات دائماً بعضها «عندما كنت في إسرائيل وفي العراق، وعندما أذهب الى إيران، لكنني لا أعلم مصادرها، فهي عبر البريد الالكتروني». وذكر أنه لا يخاف اغتياله.

وفي ما يأتي الجزء الثاني من الحوار:

> ما طبيعة شبكة عبدالقدير خان؟

 كانت شبكة متعددة الأطراف، موجودة في أكثر من 30 دولة. وكان كثيرون من أعضائها موزعين على ألمانيا وسويسرا وتركيا وجنوب أفريقيا. كانوا متعددي الجنسية: عائلة سويسرية، شركات تركية، مجموعة من الألمان، شركات في ماليزيا. كانت من أكثر الشبكات تعقيداً، لكن خان كان هو من يطلق عليه رئيس مجلس الإدارة.

عبدالقدير خان وشبكته ساعدا ليبيا وإيران بالطبع، وهناك حديث عن أن الشبكة ساعدت كوريا الشمالية، إلى حد ما. كان جزء كبير من هدفها معنياً بالمال وتحقيق أرباح.

> وماذا كان لدى خان ليعطيه لهذه الدول؟

 كان يزودها التكنولوجيا، المعرفة التقنية، التصميمات على اسطوانات مدمجة (CD)، أو حتى جهاز طرد لتصنيع مثله. نحن لم نتعامل مباشرة مع عبدالقدير خان، لأنه كما تعلم أبو البرنامج النووي الباكستاني، ويحظى بمرتبة عالية من التقدير هناك، ولديه كثير من الشعبية، على رغم أنه تحت الإقامة الجبرية في منزله. لم يسمح لنا بالتحدث إليه مباشرة لكن باكستان تعاونت معنا وكنا نوجه إليه أسئلة عبر الحكومة ونحصل على ردود.

> هل اعترف بتفاصيل؟

 اعترف بأنه كان جزءاً من الشبكة النووية، وكانت لنا مقابلات كثيرة مع معظم أعضائها. كثيرون منهم كانوا بالطبع جزءاً من عملية تجارية، لكنني أتصور أن خان كانت لديه اعتبارات إيديولوجية، في تصوره أنه استطاع أن يحيّد البرنامج النووي (الهندي) عن طريق إطلاق البرنامج الباكستاني الذي أقامه ليكون موازياً لبرنامج الهند، وكان يحاول أن يكرر المعادلة ذاتها بين البرنامج الإسرائيلي وبعض البرامج العربية والإسلامية.

معلوماتي أن عبدالقدير خان لم يكن يعمل لأسباب تجارية فقط، بل كانت لديه أسباب عقائدية، وهذا يعود بنا مرة أخرى إلى موضوع الأمن في منطقة الشرق الأوسط التي لا بد من إخلائها من أسلحة الدمار الشامل.

خان و "القاعدة"

> هل ظهر خيط يربط خان بـ «طالبان» أو «القاعدة»؟

 لا، لم نرَ شيئاً كهذا، لكن بعض العلماء الباكستانيين زاروا أفغانستان.

> ماذا حدث في هذه الزيارات؟

 لا أعلم تفاصيلها، لكن هناك اعتبارات عقائدية في باكستان. وما أخشاه أن يحدث تزاوج بين السلاح النووي والعقيدة، بصرف النظر عن هذه العقيدة، لأن هذا التزاوج سيدمر أصحاب هذه العقيدة وأصحاب العقائد الأخرى كافة.

> يُقال إن أكبر تاجر نووي في التاريخ هو خان...

 بالطبع، هو أكبر تاجر نووي قطاع خاص. كما ذكرت، كان رئيس الشبكة، ولكن كانت هناك شخصيات أخرى كثيرة تدير فروعاً إقليمية. كانوا يصنعون جزءاً في تركيا وآخر في جنوب أفريقيا وغيره في ماليزيا، ورابعاً في سويسرا أو ألمانيا، ويتم تجميع هذا كله في دبي.

> خان كان يسافر كثيراً إلى دبي، هل كانت مركز التجميع؟

 كانت لديهم مراكز في دبي تعمل تحت أسماء شركات.

> وماذا كانت مهمتها؟

 تجميع الرسومات وعملية التصدير.

> وكم شخصاً ضمت؟

 ثلاثين شركة على الأقل. يمكن أن يصل عدد الضالعين (في الشبكة) إلى ما بين 50 و100 شخص، بين علماء ورجال أعمال ومتخصصين في التصدير ومحاسبين. كانت شبكة معقدة عابرة للمحيطات.

> وهل عرفتم من التقى هؤلاء في أفغانستان؟

 لا. قرأنا في الصحف أن اثنين من العلماء ذهبا إلى أفغانستان فقط.

> هل ساهم خان في تأسيس البرنامج النووي الليبي؟

 نعم، بالطبع.

> وإلى أي مدى كان برنامج ليبيا جدياً؟

 كان في المراحل التمهيدية. عندما ذهبت إلى ليبيا في عطلة نهاية عام 2003، رأيت أجهزة غير كاملة في حاويات. وكانت هناك أجزاء أساسية لم تصلهم بعد.

> ومن أين جاؤوا بها؟

 بعضها عن طريق خان، وبعضها من جنوب أفريقيا وماليزيا. جاءت من أماكن مختلفة، لكن البرنامج الليبي كان في المهد. ربما كانوا أكثر تقدماً في البرنامج الكيماوي، ولكن ليس النووي. ليبيا كانت صريحة، وقالت إنه برنامج عسكري، وخان كان الشخص الأساسي وراء البرنامج الليبي. وبحسب علمي، زار دولاً عربية وعرض مساعداته.

> أي دول؟

 لا أود ذكر أسماء ولكن كانت وراء هذه المحاولات أسباب عقائدية. وطالما أن هناك خللاً في نظام انتشار السلاح النووي في الشرق الأوسط، وطالما بقيت إسرائيل خارج هذا النظام، وطالما هناك عملية سلام منقوصة لا تتقدم إلى أمام، سنجد في المستقبل محاولات من دول أخرى للحصول على السلاح النووي. أينما وُجد إحساس بعدم الأمن، ستحاول الدول ما تستطيع لتأمين نفسها، سواء اختلفنا معها أو اتفقنا.

على سبيل المثال، هناك خلاف كبير مع الايديولوجيا الإيرانية ومحاولاتها التدخل في المنطقة، ولكن من وجهة نظر إيران، هي تشعر بعدم اطمئنان: هناك سلاح نووي باكستاني، وآخر روسي، إضافة إلى 150 ألف جندي أميركي في المنطقة. وسواء اتفقنا مع هذا الإحساس بانعدام الأمن أو لا، يجب أن نعالجه، والحل الوحيد أن نجلس إلى طاولة التفاوض.

> هل صار سجل ليبيا نظيفاً؟

 نعم، صار نظيفاً واستطعنا ان ننتهي منه. برنامجها الكيماوي كان متقدماً أكثر.

> هل كانت لديها خبرات من الخارج؟

 كانت لديها هذه الخبرات عندما كانت تطور برامجها، ولكن لديها مجموعة من العلماء الليبيين في المجال النووي تعلموا في الخارج وهم على أعلى قدر من المعرفة.

> يقال إن لدى إيران جيلاً من العلماء؟

 إيران لديها جيل متقدم جداً من العلماء. مستوى التعليم فيها مرتفع، وهناك كثيرون من العلماء الذين درسوا في الخارج. إيران هي البنية الصناعية، وأقول دائماً إن أي دولة لديها بنية صناعية متقدمة يمكنها تصنيع سلاح نووي إذا أرادت، وإيران لديها بنية صناعية متقدمة على كثير من الدول العربية، إن لم يكن على معظمها.

> هل استعانت إيران بعلماء من بقايا الاتحاد السوفياتي؟

 ليس على حد علمنا.

> وليبيا؟

 في بداية البرامج في الثمانينات، كان لديها علماء من الخارج، إنما بعد ذلك رأينا علماء ليبيين.

صدام والسلاح النووي

> لنعد قليلاً إلى الماضي. هل كان البرنامج النووي العراقي متقدماً حين ضرب مفاعل «أوزيراك» في عام 1982؟

 البرنامج العراقي كان (يتكون من) مفاعل بحوث، ولكن الخوف كان أن يؤدي هذا المفاعل إلى تطوير المعرفة وتوليد بلوتونيوم مستنفد، يتولى العراق لاحقاً فصله وتوليد البلوتونيوم. كانت قراءة لأخطار مستقبلية. وفي رأيي أن ضرب المفاعل دفع صدام حسين الى بناء مفاعلات ضخمة جداً تحت الأرض، لإعادة بناء البرنامج النووي. وهذا ما أحذر منه في ما يخص إيران.

توجيه الضربة قد يكون عطّل البرنامج العراقي قليلاً، ودفع صدام الذي ربما لم يكن في ذهنه الحصول على سلاح نووي، إلى توجيه بلايين الدولارات إلى هذا البرنامج لتطوير هذا السلاح. ولم نكتشف هذا الأمر سوى في عام 1991 بعد حرب العراق الأولى. ولولا هذه الحرب، لاستمر صدام في برنامجه لصنع السلاح النووي.

لذلك، فإن المسائل المتعلقة بغياب الإحساس بالأمن والتسابق الإقليمي لإحداث توازن أو تفوق، لا يمكن أن تُحل عسكرياً. وحان الوقت لنفهم أنه من أجل التوصل إلى حل دائم، ليس علينا فقط أن نتفاوض، بل أن نخرج بحلٍ مشرف، لتفادي تكرار ما رأيناه في أوروبا، حين أدى اتفاق «فرساي» غير المتكافئ إلى الحرب العالمية الثانية.

كسب الوقت شيء آخر، ولكن إذا أردنا أن نحقق سلاماً بالمعنى المفهوم، لا بد أن يكون قائماً على المساواة والتكافؤ والعدالة.

> هل التقيت العقيد معمر القذافي؟

 نعم.

> كيف كان اللقاء، وماذا قال عن البرنامج النووي؟

 كان اللقاء طيباً. ذكر أن بلاده ضُربت آنذاك (في 1986)، وأنهم قرروا حماية أنفسهم وبدء هذه البرامج. فقلت له إن البرنامج النووي كان سيؤدي إلى مزيد من المشاكل لليبيا، وأن عليها أن تحاول الانخراط في المجتمع الدولي، وتأمين نفسها، ليس من طريق السلاح النووي، وإنما بالتعامل مع الأسرة الدولية والاندماج معها.

> وأين التقيته؟

 في القاعدة العسكرية في طرابلس (ثكنة باب العزيزية).

> من أقنع القذافي بالتخلي عن برنامجه النووي؟

 لا أعلم، ولكن كانت هناك محادثات بين ليبيا وبريطانيا وفرنسا استمرت تسعة أشهر وانتهت بهذا الإعلان، وشاركت فيها أجهزة مختلفة من هذه البلدان، إضافة إلى أجهزة أميركية. لكنني أعتقد بأن ليبيا هي مَن اتخذ قرار العودة إلى الأسرة الدولية.

> هل قابلت صدام حسين؟

 لم أره، وربما كانت هذه إحدى المشاكل. كان تعاملنا مع طه ياسين رمضان، وكان صدام خارج (هذه العملية)، على رغم أنه كان يصدر القرارات كافة، فالدولة مركزية تماماً ولا يمكن أن يُتخذ قرار من دونه. ورجوت كثيرين من الزملاء العراقيين أن يلتقينا صدام ويتعامل معنا، لبناء الثقة وتخفيف حدة التوتر.

> متى كان هذا؟

 في نهاية عام 2002، أو مطلع 2003. اتفقنا على لقاء مع صدام في نيسان (أبريل) 2003، لكن الحرب اندلعت قبل الموعد بأسبوع.

> وكيف كان التفاوض مع طه ياسين رمضان؟

 أعتقد بأننا أنشأنا معه علاقة حرفية جيدة في نهاية المطاف. كان في البداية يتبع أسلوباً هجومياً، ويتهمنا بأننا في العراق لصب مزيد من الزيت على النار، وأننا وأننا... وفي أحد اللقاءات، تحدثت معه بصراحة، وقلت له: نحن هنا لننقذكم من ورطة وحرب، وكي نتمكن من فعل هذا، لا بد أن تساعدونا وتفعلوا كذا وكذا.

وبعد هذا الحديث المباشر، نشأت علاقة طيبة معه. كانت علاقتي بهم (المسؤولين العراقيين) أولاً كمفتش، وثانياً كناصح لهم بما يجب فعله ليتجنبوا إلقاء أنفسهم في التهلكة. ولكن للأسف، شنت الولايات المتحدة الحرب بناء على معلومات ظهر في ما بعد أنها خاطئة، على رغم أننا لم نر أي دلائل على أن العراق عاود بناء برنامجه النووي، وهذا ذكرته في مجلس الأمن قبل الحرب بـ 13 يوماً.

كان يمكن أن تكون العلاقة أكثر شفافية آنذاك. لكن هل كان صدام لا يخشى شيئاً بما أنه ليس لديه سلاح نووي، هل أراد أن يحافظ على الغموض ليحمي نفسه؟ أعتقد بأن هذا تفسير. لكن الغموض لم يفده، ونشبت الحرب، وكانت من أشد الأمور التي أحزنتني في حياتي، لأنني رأيت مليون عراقي يفقدون حياتهم، نتيجة أخطاء نظام لم تكن لهم في تغيير سلوكه ناقة ولا جمل.

> مَن هو أبرز مسؤول التقيته في كوريا الشمالية؟

 التقيت الرجل الثاني في البلاد، رئيس البرلمان كيم يونغ نام. لكن وضع بيونغيانغ مختلف، إذ ليست لديها أطماع إقليمية. هي دولة فقيرة جداً، ولديها مشاكل، وبين 60 و70 في المئة من أطفالها يعانون سوء تغذية. لديها ورقة واحدة تُفاوض بها هي السلاح النووي، وتريد الحصول على أقصى استفادة منه. كانت تود أن تحافظ على سلامة النظام وإبعاد أي تهديد له، أي أنها تود الحصول على ضمانات أمنية ومساعدات اقتصادية.

كل مشكلة من المشاكل التي نتعامل معها تختلف عن الأخرى، من ناحية الأبعاد الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية. وجزء من عملي في الوكالة الدولية للطاقة الذرية فني وآخر ديبلوماسي، لكن تأثير العامل الفني كبير، أي أن أي كلمة نذكرها في الوكالة قد تؤدي إلى حرب أو سلام. لذلك، يحرص المرء وهو في موضع القاضي على أن يكون حُكمه مبنياً على الحقائق المجردة، وأن يبذل كل جهد ممكن لفصل الغث من السمين، وإخراج العالم من التفاصيل الفنية التي يصعب فهمها، وتقديم صورة مبسطة توضح له ما يجب أن يعرفه.

إذا رأيت غداً خطراً عاجلاً، سأدق ناقوس الخطر، ولكن طالما أرى أن هناك فرصة للحل عن طريق التفتيش والديبلوماسية، فهذا هو الطريق السليم. في عملي أقابل مختلف القيادات، من البابا إلى الرئيس الأميركي جورج بوش إلى رئيس الوزراء الإسباني خوسيه لويس ثاباتيرو... وغيرهم، ودوري هو تقديم النصح، أما القرار فيعود لهم في نهاية المطاف. وهذا كان الوضع مع العرب أيضاً.

> وهل التقيت الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد؟

 لم التقه بعد. قد أقوم قريباً برحلة إلى إيران، وقد ألتقي المسؤولين هناك. وهذا ضمنه جزء فني وآخر ديبلوماسي، ولا أستطيع فصلهما.

اللقاء مع شارون

> كيف كان لقاؤك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرييل شارون؟

 ذهبت إلى إسرائيل قبل أكثر من ثلاث سنوات، والتقيته في مقر رئاسة الحكومة. ولم يفهم وقتها كثيرون من العرب لماذا ذهبت. ذهبت لأن لديَّ تفويضاً من الدول الأعضاء في الوكالة بمحاولة إقناع إسرائيل بإخضاع منشآتها النووية للتفتيش. وللموظف الدولي صلاحية عالمية، ويجب ألا ينحاز إلى طرف ضد آخر، وأنا أمارس عملي بنفس راضية لأنني أعتقد بأن ما هو جيد للعالم، جيد لكل دولة.

كان اللقاء جيداً جداً، لقاء عمل صريح. وقلت لشارون آنذاك إن على إسرائيل تغيير سياساتها، وإنها إذا كانت تتعامل بمنطق الردع النووي ضد الدول العربية، فلا بد أن تعيد التفكير في الأمر، خصوصاً بعد تزايد احتمال حصول قوى متطرفة على سلاح نووي بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر). وأوضحت له أن فكرة الردع النووي تجاوزها الزمن، والحل هو التعامل المباشر والتعاون مع الدول العربية لمنع انجرار المنطقة إلى التهلكة، بسبب جماعات متطرفة.

> وهل حدثك عن البرنامج النووي الإيراني؟

 تحدثنا عن تخوفه من البرنامج الإيراني، وقلت له إن الحل لا بد من أن يكون ديبلوماسياً. وعلى رغم أنني أعلم رأي العالم العربي في شارون، فإن حديثه آنذاك كان، في رأيي، حديث رجل يبحث عن مخرج للمستقبل. وهو تفهّم أن السياسة الأمنية الإسرائيلية تحتاج إلى إعادة نظر، خصوصاً بعد 11 أيلول وظهور البرنامج النووي الإيراني، وأعلن للمرة الأولى بعد زيارتي أنه مستعد للحديث عن منطقة منزوعة السلاح النووي في الشرق الأوسط. في تصوري، كانت زيارة طيبة.

أنا أتفق كثيراً مع الكاتب الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد. العالم العربي يقول لا تطبيع مع إسرائيل، ولكن إذا أردت أن أكسب الرأي العام الإسرائيلي المعتدل لا بد أن نخاطبه. لا أفهم أن يُمنع نشر كتاب يتحدث عن الحضارة العربية باللغة العبرية، وسررت عندما وجدت شخصاً في عقلانية إدوارد سعيد، وهو فلسطيني له وزنه. السياسة التي نتبعها تصب في مصلحة الجماعات المتطرفة (في إسرائيل)، فهي تقول: إذا كانت الدول (العربية) التي لها علاقات مع إسرائيل تمتنع عن الحديث معنا، فكيف نستطيع أن نثق بأن العالم العربي جدي في إقامة علاقات؟

سورية وكوريا الشمالية

> قصفت إسرائيل هدفاً في الأراضي السورية تقول إن له علاقة بكوريا الشمالية. هل هناك معلومات عن برنامج نووي سوري؟

 لا توجد لدينا أية معلومات عن برنامج نووي سوري. أنا فوجئت بهذه الخطوة. وإذا كان هناك شيء خاص ببرنامج نووي، فعلى الإسرائيليين والأميركيين إبلاغنا أولاً للقيام بالتفتيش. يجب ألا يكون الحل أن نضرب أولاً ثم نطرح الأسئلة. أي دولة لديها معلومات عن برنامج نووي لأي دولة أخرى، عليها أن تبلغ الوكالة، حتى الآن لم تردنا معلومات عن أي برنامج نووي في سورية. وحين تحدثت إلى الأخوة السوريين، قالوا إن الهدف كان منشأة عسكرية، فطلبت منهم السماح للوكالة بالذهاب إلى هناك لتؤكد أن المنشأة ليست نووية.

> السوريون قالوا إن الموقع عسكري؟

 نعم، قالوا منشأة عسكرية، ولكن لا تعنيني طبيعة المنشأة العسكرية التي استهدفت، طالما أنها ليست في مجال اختصاصي. غير أن الإخوة السوريين لم يسمحوا لنا بزيارة الموقع.

> يُقال إنهم جرفوه؟

 الموقع تم جرفه طبقاً لمعلوماتنا. ولكن، حتى في هذه الحال، لدينا تقنيات للتأكد من أن المنطقة لم تكن فيها منشأة نووية. واستناداً الى صور الأقمار الاصطناعية، يستبعد خبراء الوكالة أن يكون المبنى المستهدف منشأة نووية. وأنا أعتبر هذا القصف (الإسرائيلي) سابقة ليست طيبة.

> هل سألتم الإسرائيليين عن معلومات وأدلة؟

 سألنا ولم يأتوا إلينا بأية معلومات، لا هم ولا أية استخبارات أخرى. وأنا أتعامل مع الموضوع باعتبار أن الهدف كان منشأة عسكرية وليست نووية، وما زلت آمل بأن يسمح لنا الإخوة في سورية بزيارة موقع الغارة كي نؤكد أنه ليس منشأة نووية.

بناء الثقة

> متى ستتقاعد؟

 لا يزال أمامي عامان، آمل خلالهما بالوصول بالملف النووي الإيراني إلى شاطئ الأمان، وبأن أرفع الوعي في العالم العربي بأهمية وجود صرح أمني يدعم عملية السلام. نحن نتحدث في العالم العربي فقط عن الأرض مقابل السلام، ولا نتكلم إطلاقاً عما سيكون عليه النظام الأمني في المنطقة بعد مئة سنة من انعدام الثقة والحروب والخوف. لا بد أن يكون هناك إصرار على إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، والحد من السلاح التقليدي الذي ننفق عليه بلايين الدولارات سنوياً ويتحول إلى خردة في الدول العربية. لا بد أن تكون هناك إجراءات بناء ثقة.

قرأت أخيراً أن هناك صفقات أسلحة بنحو 50 بليون دولار لدول الشرق الأوسط، بهدف مواجهة الأخطار الإيرانية. ما يحتاجه العالم العربي اليوم هو نظام للحكم الرشيد، تعليم، بحث علمي وتقنيات، تمكين المواطن العربي، ومنحه حق العيش في حرية وكرامة وسلام. لا بد أن نبدأ بالإنسان وأن ننتهي عنده. عندما يحظى الإنسان العربي بسلام وطمأنينة، ستعيش المنطقة في سلام وتصالح مع نفسها. آن لنا أن نمر بالمرحلة التي مر بها العالم الغربي، وهي مرحلة النهضة التي تتلخص في التفكير العقلاني الرشيد.

> وما طموحاتك الأخرى؟

 بعد أن تنتهي مدتي، سأكون أمضيت 12 سنة في هذا العمل، وهو عمل فيه كثير من التوتر والضغوط. ولكن عندما أرى أن الوكالة تقدم للدول النامية أجهزة العلاج الإشعاعي من السرطان وتساعد الدول النووية في الاستخدام الرشيد للمياه الجوفية في الزراعة، أشعر بأنني قادر على المساهمة بمقدار متواضع في تأمين الفرصة لحياة حرة وكريمة لهؤلاء الناس.

بعد التقاعد، أتمنى أن أعمل في المحاضرات والسياسة العامة، وفي منطقتنا تحديداً، نحن أحوج ما نكون إلى أن نبدأ صحوة جديدة. نحن نسير في اتجاه مخالف لاتجاه العالم، ولن يتم تصحيح هذا سوى بتغيير أنظمتنا وأسلوب تفكيرنا والتركيز على أولوياتنا. وحينها، لن نتكلم على معايير مزدوجة، لأنه لن تكون هناك معايير مزدوجة.

> أين تود التقاعد؟

 قضيت 40 سنة من عمري متنقلاً بين أنحاء المعمورة. وأعتقد بأنني سأقضي فترة تقاعدي بين مصر والنمسا، كما أن لدينا بيتاً صيفياً في فرنسا.

> أي أنك لا تطمح الى تولي منصب دولي آخر؟

 لا. أود أن أصبح أكثر حرية، وأن أتكلم بلا حدود.

> ما هو برنامجك اليومي، بخلاف معايشة الملفات؟

 هواياتي هي الموسيقى الكلاسيكية ولعب الغولف إذا تيسر الوقت، واقتناء السجاد القديم والساعات، ومتابعة الفن التشكيلي الحديث. لا بد أن يفصل الإنسان نفسه عن العمل لبعض الوقت.

أم كلثوم والمتنبي

> مَن تحب من المطربين العرب؟

 تركت مصر منذ زمن بعيد، لكنني أستمع إلى أم كلثوم وفيروز ووديع الصافي. تعيد إليّ أغانيهم ذكرى نشأتي البعيدة في القاهرة في خمسيناتها وستيناتها، حين كانت مكاناً كوزموبوليتانياً مفتوحاً على المستقبل. كانت هناك نخبة في كل المجالات لا تقل عن مثيلاتها في أي من دول العالم. هذه الأغاني تردني إلى تلك الفترة. كنا نعيش في مجتمع متسامح. والدي كان متديناً جداً، لكن الدين كان هو التسامح، التضامن الاجتماعي، مساعدة المحتاج، العمل، الصدق، والأمانة. هذه هي المفاهيم التي تربيت عليها.

> من شاعرك العربي المفضل؟

 المتنبي، لأن لديه نظرة فلسفية واقعية وحكمة وعمقاً في شعره. أقرأه أحياناً، وأحاول أن أقرأ كتباً عربية، ولكن ليس لديّ وقت.

الفلسفة والتاريخ هما أكثر المجالات التي تستهويني. أقرأ الآن كتابين، أحدهما عنوانه The March of Folly (مسيرة الحماقة)، وهو يوضح كيف أننا لم نتعلم شيئاً من الحروب، من طروادة إلى فيتنام. الكتاب الآخر عنوانه 1919، وهو يذهب إلى أن العالم الذي نعيشه هو نتيجة اتفاق فرساي الذي وقعه قادة أوروبا في عام 1919.

> هل تشعر بأن معظم المدن العربية الإسلامية كان وضعها أفضل قبل 50 سنة؟

 من دون شك. أنا أتكلم على الأقل عن القاهرة التي كانت لا تقل عن أثينا أو مدريد أو فيينا. يكفي الشعور بالأمان والطمأنينة والأمل والذوق العام والإحساس بالجمال. وفي نهاية المطاف، التسامح والمحبة. كل هذا، للأسف، اختفى إلى حد كبير في العالم العربي. تقويم الإنسان كان على أساس عقله، وليس بالنظر إلى ما يملكه.

> باعتبارك عربياً مسلماً، بماذا شعرت خلال أحداث 11 أيلول؟

 شعرت بالحزن لأننا أصبحنا مثلاً للتخريب والهدم، وليس للبناء والحضارة.

تهديدات

> هل تخشى الاغتيال، وهل تلقيت تهديدات؟

 أتلقى تهديدات دائماً.

> مِمّن؟

 عندما كنت في إسرائيل كانت هناك تهديدات، وفي العراق، وعندما أذهب إلى إيران. لكنني لا أعلم مصادر هذه التهديدات، فهي تأتي من طريق البريد الالكتروني. وأنا لا أخاف من الاغتيال، لأنني أعلم أن قدري سيأتي في موعده. وعلى المرء أن يأخذ احتياطاته بالطبع، ربما تخاف عائلتي أكثر، لأنني لا أفكر كثيراً في هذا الأمر. طالما الإنسان يعتقد بأنه يفعل ما عليه فعله، وينظر إلى المرآة في نهاية اليوم فيجد ضميره مرتاحاً، عليه ألا يهتم كثيراً بتلك الأمور.

> هل أنت متشائم بعد تجربتك في التعاطي مع ملفات المناكدة (الأمن، والتسلح، وغيرهما)؟

 أنا متشائم لأنني أرى أن أولويات الدول الكبرى لا تؤدي إلى سلام عالمي، سواء في ظل غياب فرص مساوية للحياة الكريمة للبشر أو في ظل النظام القائم على استخدام القوة في حل النزاعات وعدم تقديس الحياة الإنسانية، خصوصاً بعدما بات البشر الذين يخسرون حيواتهم مجرد أرقام تسجلها الصحف يومياًً. هذه الدول يجب أن تكون قدوة، لكن هذه القدوة ليست موجودة الآن، قد تأتي، وآمل بأن تأتي قريباً. العالم العربي انغلق على نفسه ولم يحدد أولوياته، ولا يود أن يعترف بوجود مشاكل أساسية. عندما أرى مصر، رائدة العالم العربي، في المرتبة الرقم 112 بين دول العالم لناحية التنمية البشرية، يصيبني هذا بحزن كبير. يجب أن نكون في مصاف الدول المتقدمة. لدينا القدرات الإنسانية والبشرية والطبيعية كافة. والإنسان العربي كما تراه في كل مكان قادر وذكي وجديّ، ولكن يجب أن نخلق له بيئة مواتية. وكي نتمكن من بناء أنفسنا، لا بد أن نعترف بأننا وصلنا إلى مستوى متدنٍ يجب ألا نصل إليه. ليس هذا عيباً، ويجب أن تكون لدينا الأمانة مع النفس للاعتراف بالخطأ.

> وهل تعتقد بأن العالمين العربي والإسلامي يعانيان مشكلة عدم تسامح؟

 بالطبـــع، عندما أرى أننا نتحدث عن السني والشيعي، العربي والكردي، الماروني والمسلم، القبطي والمسلم، وفي الوقت ذاته نحاول اخفاء رؤوسنا في الرمال وندعي أن ليست هناك مشكلة. لا، هناك مشكلة ولا بد أن نعالجها، وهي مشكلة فقر وجهل وتخلف، وليست مشكلة اختلاف أديان، بدليل أننا لم نكن نراها قبل 50 سنة. عشت في مصر وكان أصدق أصدقائي من الأقباط والأرمن واليهود المصريين آنذاك.

اليوم قبلنا بأن يُقسَّم العراق على أساس طائفي، وسألتُ أصدقاء في أميركا: هل تقبلون بأن يكون قاضي المحكمة العليا كاثوليكياً ووزير العمل «هيسبانيك» (أي من أصول لاتينية) ووزير الصحة أسود؟ هذه اختلافات يجب أن تستوعبها المدنية الحديثة، لكننا نعود لإبرازها. أنا لا أعرف الإسلام الذي تروجه الجماعات المتطرفة، فهو يقوم على الطقوس لا على الجوهر.

> هل انتهى سوء التفاهم مع الإدارة الأميركية؟

 سوء التفاهم مع واشنطن يطفو إلى السطح ويذهب إلى القاع، بين وقت وآخر، لكنني لست سببه. أفعل ما أرى أن واجباتي، كمسؤول دولي، تمليه عليّ. ليست لدي أجندة خفية، بل أعمل لمصلحة العالم كله. وإذا رأوا أن هذا يناسبهم، سأكون سعيداً. أما إذا اختلفوا معي في الرأي، فدائماً أقول لهم إن الاختلاف لا يفسد للود قضية. وإذا كان هناك خلاف، فلا بد من أن نجلس معاً لنتفاهم.

لا أتصور أن هناك خلافاً في الهدف النهائي، أو هكذا آمل، وهو أننا نود أن نرى عالماً آمناً عادلاً. لكن الاختلافات تكتيكية، وأنا لن أضحي يوماً من بمبادئي لأحظى برضا هذا النظام أو غيره. وما لا يفهمه كثيرون هو أنني مسؤول أمام الدول كافة وليس أمام كل دولة.

> ما أسماء أولادك يا دكتور؟

 مصطفى وليلى.

> ألديك أحفاد؟

 ليلى تنتظر طفلها الأول في نيسان (أبريل) المقبل، وهي محامية تعيش في لندن.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)