من يتابع، ولو ليوم واحد، الجدل الانتخابي الراهن في أمريكا، خاصة بين المرشحين الجمهوريين للرئاسة، يخيل له أنه في أفغانستان القروسطية لا في أمريكا ما بعد الحداثة. أنه بين أحضان “طالبان” التوتاليتارية، لا بين ذراعي الأحزاب الديمقراطية الأمريكية.

“الدين يجب أن يكون قبل الدستور”، يصرخ المرشح هاكابي، مردداً مطالبات الحركات الأصولية المسيحية الأمريكية بإعادة النظر في علاقة (أو لا علاقة) الكنيسة والدولة.

“الله (تعالى) يجب أن يستعيد دوره في الدولة والمجتمع الأمريكي”، يردد المرشح رومني، مشدداً على أن ما بين 30 إلى 40 في المائة من الشعب الأمريكي يريد أن يأخذ ما لقيصر ليزيد صلاحيات ما للعناية الإلهية.

أما المرشح رودي جولياني، فهو يزايد على جميع المرشحين بالدعوة إلى أن تشن الولايات المتحدة “المسيحية” حرباً صليبية شاملة على الإسلام والمسلمين.

المرشحون الديمقراطيون لا ينزلقون إلى مثل هذه المهاترات الإيديولوجية والدينية، لكنهم مع ذلك سيكونون مضطرين لمداعبة مشاعر الأصوليين والإنجيليين والتبشيريين، وكذلك طائفة المورمون الذين يمثلهم الآن المرشح رومني، إذا ما أرادوا الوصول إلى البيت الأبيض.

ماذا تعني هذه الحمى الدينية الهائلة؟

قبل الانغماس في التحليل، لا بد من الاعتراف بأن هذه الأجواء العابقة بأشباح الحروب الصليبية الدموية، تثير القشعريرة في الأبدان. فهذا الذي نسمع لا يجري في دولة صغيرة لا حول لها ولا قوة، بل يدور في الدولة العظمى التي تمتلك وحدها القدرة على تدمير الكرة الأرضية عشرات المرات خلال عشرين دقيقة. واحتمال وصول أحد هؤلاء المجانين الدينيين إلى البيت الأبيض الذي توجد في داخله مفاتيح الصواريخ النووية، كاف لأن يجعلنا نعيش الكوابيس في وضح النهار.

تحليل هذه الظاهرة المقلقة يتكفل به المفكر الأمريكي كيفن فيليبيس، الذي كان “نبي” صعود الحزب الجمهوري في السبعينات، والذي انقلب الآن إلى أشد أعدائه، بسبب ما يراه من تحول هذا الحزب إلى “تيار ثيولوجي” (ديني) متخصص بالحروب الخارجية المدمرة، بدعم من شركات النفط، والمجمع الصناعي- العسكري، وجحافل الأصوليين المسيحيين.

ويرى فيليبس، في كتابه الجديد “الثيوقراطية الأمريكية”، أن صعود الأصولية المسيحية سيؤدي في النهاية إلى سقوط أمريكا، كما حدث في التاريخ مع روما، وإسبانيا الهابسبورية، والجمهورية الهولندية، والامبراطورية البريطانية. وهو يحصي خمسة عوارض “لقوة تنحدر وهي في ذروة صعودها”:

 انتشار القلق الشعبي من التدهور الثقافي والاقتصادي، جنباً إلى جنب مع الاستقطاب الاجتماعي الحاد واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

 تفاقم “الحمى الدينية” وازدياد نشاط القوى التبشيرية.

 صعود الإيمان على حساب العقل، وتدهور موقع العلم في المجتمع.

 تصاعد التوقعات الشعبية بقرب انتهاء الزمان.

 وأخيراً، التمدد الاستراتيجي والاقتصادي والعسكري الزائد.

كما هو واضح، أربعة عوارض من أصل الخمسة التي استخلصها فيليبس من قراءته للتجارب التاريخية، لها علاقة مباشرة بصعود التطرف الأصولي، وواحد فقط مرتبط بالاستراتيجيا. وبرغم أن هذا يبدو تحليلاً مغالياً في خلاصاته، إلا أن ما يجري في أمريكا هذه الأيام من هستيريا أصولية يجعلنا نميل إلى اعتبار هذه الخلاصة “مغالاة واقعية”.

ومن لا يصدّق، ليس عليه سوى متابعة الحملات الانتخابية الراهنة في أمريكا، ولو ليوم واحد!

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)