لواشنطن، عاصمة القرار الأولى، نظام داخلي خاص بها لا يعرفه الا الراغبون بالتدخل الدائم في شؤون غرفها المغلقة، فصناعة السياسة الخارجية فيها تعتمد تكويناً قل نظيره يجمع بين كثرة المشاركين وقلة المقررين. كذلك فإن رؤية شؤون منطقة الشرق الأوسط من الداخل الأميركي، لها من الخصوصية ما يكفي لجعل الزائر الآتي من حرارة بيروت يزداد توتراً:

بلاد صغرى على خريطة كبرى تتضمن رقعاً من النقاط الساخنة. مسؤولون يناقشون بهدوء أكثر الموضوعات حساسية، بصورة يشتاق المرء فيها الى ضجيج بيروت. مجموعة من العناوين السياسية حملتها معي في زيارتي السنوية للعاصمة الأميركية، أهمها فشل المجموعة العربية والاتحاد الأوروبي والادارة الأميركية مجتمعين في فرض أي تعديل جدي في سلوك النظام السوري تجاه الملف اللبناني. آتي الى واشنطن سائلاً. مستفسراً. داعماً وجهة نظر ما. ناقلاًَ رسالة لبنانية ما. آتي اليها شديد الرغبة في الاستعلام عن شؤون المنطقة، وإذ بي أتحول مستجوباً عن تفاصيل السياسة اللبنانية وأهوائها.

يقول جيمس بيكر وزير خارجية ادارة بوش الأب ان الدرس الأبسط في العلاقات الدولية هو مبدأ العصا والجزرة. ومما لا شك فيه ان استقلال لبنان اليوم عالق بين مطرقة عدم الرغبة بتغيير النظام السوري وعدم القدرة على فرض تعديل في سلوكه.

في هذا الاطار فإن الحصانة الرئيسة التي تمنع تقدم مبدأ قلب النظام في واشنطن هي بطبيعتها اسرائيلية الهوى. وكان لجهد ادارة الرئيس الأسد فضل في الترويج لنظرية أحد الاصدقاء الأميركيين الذي قال ان الاسرائيليين يدافعون عن موقفهم بمبدأ ان «الشيطان الذي تعرفه أفضل من ذلك الذي تجهله». أما عدم القدرة على فرض تغيير السلوك فمرتبط بعدم وجود مجموعة جدية من العصي. أو أقله بعدم قدرة ادارة الرئيس بوش أو رغبتها في تطوير العصيّ واستعمالها.

هناك نظريات كثيرة حول الطبيعة المعقدة للأزمة اللبنانية وتشعباتها، لكن الحقيقة أبسط من ذلك بكثير، فلو وجد أحد المكونات الأساسية للمجتمع الدولي طريقة لفرض تغيير سلوك دمشق لانتخب رئيس لبناني وشُكلت الحكومة وصيغ بيانها في ساعات قليلة. واللبنانيون الراغبون في مساندة دولية لأحلامهم أكثر فعالية، يلحظون كثرة الكلام باتجاه دمشق وقلة الأفعال المجدية. وجميع الشخصيات السياسية العربية والدولية على استعداد للتهجم الكلامي المفرط بحق الرئيس الاسد وإطلاق أسمى عبارات التشجيع والمساندة والاعجاب بحق الحكومة اللبنانية، لكن اللبنانيين لا يجدون في الأسرة الدولية من هو على استعداد لقطع العلاقات أو سحب سفير أو وقف المساعدات الاقتصادية أو احتضان المعارضة السورية.

بدا ذلك واضحاً في تجربة الفرنسيين أخيراً مع المساعي لانتخابات الرئاسة اللبنانية، فقد وضع الرئيس ساركوزي كل رصيده السياسي وفريقه الاستشاري وطاقمه الوزاري في خدمة التسوية اللبنانية بعد ان كان أقنع الرئيس بوش بتسلمه الموقت للملف الداخلي اللبناني نظراً الى حياديته المفترضة التي قد تمنحه هامشاً تفاوضياً. حصل ساركوزي على ما لا يقل عن عشرة وعود سورية بتسهيل الانتخابات الرئاسية عبر موافقة حلفائهم في لبنان أقله على لائحة البطريرك صفير. منها ثلاثة وعود هاتفية من الرئيس الأسد شخصياً، وزار وزير خارجيته كوشنير بيروت عشر مرات من دون نتيجة ملموسة واحدة، فصدر عنه كلام مهدد بأنه «سيُبين للسوريين من هو ساركوزي»، ليعود ويتصل عبر ادارته بالرئيس الأسد مستنجداً الحلول.

استعمل الرئيس الفرنسي في هذا الاطار لغة الجزرة بطريقة خارجة عن المألوف واعداً السوريين بفتح أبواب الجنة لهم مقابل تعاونهم. لكن الإدارة السورية درست خياراتها وفضّلت مرشحها الرئيس الذي عُرف بفخامة «الفراغ الرئاسي». فإذ بالعصا التي هددهم بها ساركوزي تترجم أميركياً دعوة شرف الى مؤتمر أنابوليس وفقاً لشروط دمشق. كل الدنيا تهرع لمراضاة الادارة السورية. الترويكا الأوروبية تضع ثقلها الايجابي في دمشق. المبادرة الفرنسية تبدأ من دمشق. العاهل الأردني (وهو أكثر المسؤولين العرب خصومة للرئيس الأسد) يزور دمشق. يخرج من الاجتماع ولا ذكر لا لاستقلال لبنان ولا للقرارات الدولية المتعلقة به. رومانو برودي يتصل بالأسد اسبوعياً.

أحصل ذلك لغياب القدرة على معاقبة دمشق أم أن تحسّن الوضع الأمني في العراق وإعادة احياء عملية السلام اعادا ترتيب الأولويات؟

1- هل ينفع احتضان الأسد؟

يقول دينيس روس أن ادارة بوش تتبع باتجاه سورية سياسة لم يعهدها في تجربته الديبلوماسية، عنوانها ان السوريين «يعرفون ما عليهم فعله». هنا يجب الاشارة الى أن روس من كبار منظري عملية السلام من الجانب الديموقراطي، وممن لا يبدون حماساً للمسألة اللبنانية. لكنه يقول إنه عندما التقى أحد رجال الكونغرس الذين زاروا سورية حديثاً قال الأخير انه حاول التعاطي مع الادارة السورية على أساس مبدأ الأممية فلم ينجح. حاول مجدداً مراعياً مفهوم الدولة. ومن ثم تعاطى معهم على أنهم رئاسة أو حكومة، فكان نصيبه الفشل مجدداً. حاول أخيراً مقاربتهم على أنهم عائلة حاكمة. لكنه عندما فشل في ذلك أيضاً استنتج ان الحل الوحيد للتعامل مع الادارة السورية هو «صدام العصابات». لذلك يعتقد روس بأن الادارة الحالية تحصل على «أسوأ العالمين» على حد التعبير الأميركي إذ تتكلم بأشد ما في اللهجة من سوء لكنها تحقق القليل في مستوى الواقع.

وعندما سألته عن العصا اعترف بأنه يوجد القليل من الأدوات في حوزة الأميركيين لاستعمالها في وجه دمشق. وبما أنه من المؤمنين بنظرية «القوة الناعمة» حدثني عن الاستراتيجيا التي تعتمد على التفاوض المباشر والتعاون الأميركي – الأوروبي لفرض عقوبات اقتصادية على افراد النظام. عندها اوضحت له أنه عملاً بالعقل السوري فإن أي مفاوضات مع النظام تشعره بارتياح كفيل بإشعال رغبته في التقدم بمشروعه اللبناني الى الأمام. المفاوضات لدى الأميركيين استراتيجية سياسية، أما لدى السوريين فهي انجاز في حد ذاتها. وبالنسبة الى العقوبات فهو يعلم ان الاوروبيين لن يتعاونوا، وأن سورية تملك ما يكفي من الحلفاء لسد العجز اذا عوقبت، ولو كانت شهوة الادارة السورية للبنان تُعالج بالمال لكانت السعودية وجدت لذلك سبيلاً في دمشق. وفي ما يخص الاحتضان المعنوي فإن اسلوب المملكة العربية السعودية (ومن ورائها العرب!) حتى بعد اغتيال الرئيس الحريري، تجاه الرئيس الأسد قل نظيره في العلاقات الدولية، في محاولة من المملكة لإعادة سورية الى الصف العربي، الا ان المحاولة المبالغة في تفهمها سلوك دمشق أفشلها رئيس سوري لم يلتزم الميزة الوحيدة التي يشهد الجميع لوالده الراحل بها أي الوفاء. اذاً، وقد فشل الاحتضان، فمن يؤمّن البديل؟

2- من يصمد في انتظار العصا الكبرى؟

استمر بحثي عن العصا.

ذهبت لأرى الزميل السابق ثيث ويكاس في وزارة المال. استقبلني ببسمة ساخرة كأنه يدرك ما أتيت لأجله. شاب أمضى سنوات دراسته زائراً في العاصمة السورية فعاد ليؤلف كتاباً عنوانه «محاربة أسد دمشق». دخل مباشرة في صلب الموضوع قائلاً إن الرئيس الأسد يشعر بمزيج من الاطمئنان الصلب وبارانويا حفظ النظام. فقد أكد على أهمية النمو الحاصل في الاقتصاد السوري في ظل الدعم الايراني والخليجي والأوروبي، وتحدث عن استطاعة النظام لملمة الوضع الأمني والعسكري في الداخل السوري، خصوصاً بعد انتحار افضل مرشحي الانقلاب عليه وهو غازي كنعان. اذاً ما العمل؟ يقول ويكاس ان المحكمة ليست فقط العصا الوحيدة بل من حسن حظنا أنها الأكبر والأكثر فعالية. ولكن، هل يتعاون السوريون؟

يؤكد الباحث الشكوك بأن النظام السوري سيرفض كلا النموذجين المعروضين عليه، أي العراقي والليبي. اذ أن أي تعاون سوري في قضية المحكمة يؤدي بطبيعة الحال الى سقوط وهم المنظومة الأمنية. فلو سلم الأسد أصغر ضباطه الى المحكمة يكون ذلك اعلاناً لبداية نهاية النظام. لكن الأسد لا يزال يؤمن بالتغطية العربية - الاسرائيلية لنظامه. لذلك فإنه على الارجح سيدخل في النفق المظلم للعزلة التامة. ولكن متى كل هذا؟ يقول ويكاس أن بدء العمل بهذه النظرية لن يحصل قبل عام 2009. أما العصا الأخرى – أي الضربة الاسرائيلية – فمتروكة لحسابات التجاذب الأميركي – الاسرائيلي وفقاً لمعطيات ما بعد أنابوليس، اذاً ما العمل؟ قال ان علينا الانتظار. أجبته بأنه يمكن للبنانيين الصمود ثلاث سنوات اضافية لو أرغموا على ذلك. ولكن، من يضمن أن حلفاءهم سيصمدون الى جانبهم ولو تمسكاً بالمحكمة؟

3- أين المعارضة السورية؟

يفرض المنطق وجود معارضة سورية فعالة ومتماسكة تحظى بالدعم الجدي في اطار صوغ أي استراتيجية لتغيير سلوك الادارة السورية. لكن وجود معارضين فقط من جبهة الخلاص الوطني (أحدهما خطب في اسرائيل والثاني يترأس مجموعة أهلية) دليل واضح على صعوبة اقناع دول القرار بأن اضعاف نظام دمشق لن ينتج فراغاً «يستغله» اسلاميون متشددون.

أتى عمار عبدالحميد لزيارتي في فندق اقامتي. بدأ مباشرة الحديث عن سوء حال المعارضة السورية. زعيمها الأقوى هو الأمين العام للاخوان المسلمين علي البيانوني الذي يصعب على معظم دول الاعتدال العربي احتضانه ويستحيل ذلك في دول القرار الغربية. أما الرقم الثاني في المعارضة عبدالحليم خدام فلا يُشكل جاذبية جدية بسبب كونه ركناً أساسياً من أركان النظام السوري مدة ثلاثين عاماً. عناصر الجبهة غارقون بالخلافات الداخلية وإطارها التنظيمي هش للغاية. وضعها الدولي أضعف من تحقيق أي تقدم يذكر على الساحة العالمية. وحتى الانظمة الأكثر خصومة لدمشق لا تتبناها رسمياً. جاذبيتها الداخلية محدودة والى انحسار، نظراً الى تحسن الوضع الاقتصادي. كل هذا يقوله معارض سوري. فأين بنا بالعصا؟

4 – القمة عصا عربية؟

ربما يمنح تسلسل الأحداث في الاسابيع المقبلة فرصة ذهبية للقوى العربية للضغط على دمشق عبر التهديد بمقاطعة القمة العربية المقبلة في سورية منتصف آذار (مارس)، في ظل تعطيل القوى الموالية لسورية في لبنان أي تقدم سياسي.

والعرب باتوا على يقين من ان المحاولات للفصل الشامل بين سورية وايران لن تجدي نفعاً وإن حضرت سورية قمة أنابوليس طمعاً منها بدفع الأميركيين الفاتورة نفوذاً سورياً مستعاداً في لبنان. لكن العرب أيضاً لم يبدوا أي استعداد لاستعمال أساليب قاسية بحق دمشق مثل سحب السفراء أو قطع العلاقات أو وقف الاستثمارات أو حتى الحديث الديبلوماسي المباشر الذي يلوم دمشق صراحة على تطور الأزمة في لبنان. فزيارات الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى الى لبنان (الذي لم يشأ القاء اللوم على أحد!) باءت بالفشل نفسه الذي مُني به الوزير الفرنسي كوشنير، لأنه بكل بساطة لم يحمل معه عصا، ما أتاح للسوريين وحلفائهم التمييع والتراجع.

السعودية ومصر والاردن أمام امتحان جدية اصرارهم على دعم المسيرة السياسية الوفاقية في لبنان، ويملكون في القمة العربية عصاً يمكنهم استعمالها في اطار محدد وواضح هو «فرض» انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية بإجماع اللبنانيين.

في انتظار المحكمة الدولية... هل يرفع العرب العصا؟

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)