سليم الحص
خمس مرات رئيسا لوزراء لبنان

هذا شأن القتل. والانتحار قتل النفس، فحكم الانتحار هو حكم القتل. إنه حرام. وهو خطيئة يستحيل تصحيحها، ناهيك بتعويضها. ولكن الانتحار يبقى، شِئنا أم أبينا، خياراً. فليس ما يمنع من قرر الانتحار من تنفيذ ما صمم عليه.
وهذا شأن إهدار المصير الوطني. إنه قتل، لا بل نحر شعب بأسره. فهو جريمة قد لا يكون ممكناً العودة عنها أو تعويضها بثمن. وكذلك هو انتحار شعب أو أمة. ولكن المجرم في هذه الحالة ليس الشعب بل من يتخذ قرار قتله. فليس من شعب يقرر الانتحار بنفسه، وإنما هناك من يأخذ هذا القرار عنه وباسمه. وهو قائده، هو زعيمه أو هم زعماؤه، إنها، كما في بلدنا لبنان، الطبقة السياسية التي تستولي على قرار الشعب.

وقتل الشعب يكون بشرذمته، بالقضاء على إرادة الحياة فيه، بتفتيته وبعثرة صفوفه، في مواجهة مصيره، في التصدي لقضايا يتوقف على نهج التعاطي معها مستقبل أجيال من الناس، مصير شعب ووطن. هكذا يبقى الانتحار الوطني خياراً، ولكنه ليس قرار شعب وإنما هو قرار قلة من قادته، وفي لبنان حفنة من ساسته.

ساسة لبنان، في انقساماتهم يشرذمون المجتمع ويفتتونه ويبعثرون صفوفه في مواجهة المصير الوطني عند مفصل تاريخي من حياة هذا الشعب وهذا الوطن.
بفضل هؤلاء لم يعد الشعب شعباً، بل أضحى قبائل تسمى مذاهب وطوائف وعشائر. بفضل هؤلاء حلّت العصبيات العمياء محل الوطنية وحلت الانتماءات الفئوية الرخيصة محل المواطنة الشريفة السمحاء.
يشاغل هؤلاء الناس عن قضاياهم بالتصعيد وتوتير الأجواء. فهم يتراشقون الشتائم والاتهامات من العيار الثقيل. فبتنا، ونحن نستمع إلى السباب المتبادل بين أي اثنين من ساسة لبنان الأشاوس، نقول: كلاهما على حق. فهما يغنيان الناس عن أن يكيلوا الأوصاف لساستهم على المستوى الذي يليق بهم.

ساسة لبنان يجرّون اللبنانيين بخلافاتهم إلى الانتحار الوطني. إنهم يعيشون، ويبنون أمجادهم الزائفة، على الخلافات وهم يختلفون على المنطلق كما يختلفون على الغاية، ويختلفون على السبل والوسائل لبلوغ الغاية. هكذا تتوالى أزمات لبنان وتستعصي، وأحياناً تنفجر صدامات دامية، وتنقلب الأزمة السياسية أزمة أمنية، وفي كل الأحوال تسمى أزمة وطنية.
والأزمة الوطنية التي نكابد اليوم لها من العمر أكثر من ثلاث سنوات. بدأت بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي في أيلول عام 2004 واحتدام السجال داخلياً حول سلاح المقاومة، ثم تبدل وجه الأزمة غير مرة، بوقوع جريمة الاغتيال المنكرة التي أودت بحياة رجل كبير من لبنان، ثم بوقوع مسلسل من التفجيرات والاغتيالات التي طاولت نفراً من كرام القوم هم من أهل الرأي، ثم انقلبت الحالة أزمة حكم بانسحاب فريق وازن من الحكومة من دون أن يطرف للحاكم جفن، فلم يقبل الاستقالات ولا عيّن بدائل يحلون محل الوزراء المستقيلين، ونام قرير العين على الخلل القاتل فساهم في دفع البلد إلى الهاوية بما فيه ومن فيه. ولم تلبث الحال أن انقلبت أزمة رئاسية بانقضاء مهلة الاستحقاق الرئاسي من دون انتخاب رئيس للبلاد. فاستطاب الحاكم مستجدات الوضع ووجد في الدستور مكافأة له إذ آلت إليه سلطات رئاسة الجمهورية وكالةً.

كل هذا من شأنه أن يشد الخناق على المواطن والمجتمع فيما ساسة لبنان، على ضفتي النزاع العبثي، لاهون في جدال عقيم حول جنس الملائكة: يتوافقون على مرشح صالح للرئاسة ويتنازعون حول كل شأن من شؤون المستقبل: أية حكومة ستكون في بداية العهد الموعود؟ وكيف يتقاسم ساسة لبنان مقاعدها؟ وأي قانون انتخاب يجب أن يُعتمد؟ وأية قيادة للجيش؟ وأي مدير لهذه الإدارة وتلك؟ أما المصير الوطني فله رب يحميه!

حاول وزراء الخارجية العرب أن يحموا لبنان بقرار تاريخي. فإذا بالوزراء العرب يتقنون اللغة العربية حتى حدود افتعال إبهام في نص القرار يغدو مصدر إشكال يهدد أمن لبنان ومصيره. هكذا جعلنا من مشروع الحل مشكلة.
مع وجود الإشكال ما كان هذا الخطر على المصير لو حسنت النيات ولو كان ثمة تصميم على إيجاد مخارج، وهي ليست بالعسيرة. وقد طرحنا على أمين عام جامعة الدول العربية مشروع مخرج، فلم يلقَ صدى عند أطراف النزاع.
لا نملك إلا الدعاء: وقى الله لبنان واللبنانيين شرور السياسة الخرقاء التي تعبث بالمصير الوطني.

عن موقع «السفير»