ليس غريباً ولا عيباً أن توصف شعوب الشرق عموماً ـ مجتمعات وأفراد ـ في أنها تمتلك طاقات ومخزوناً هائلاً من الحنين إلى الماضي، ذلك أنه وفي هذا الشرق كانت بدايات تأسيس المعارف والشرائع والثقافات والديانات الأولى التي جاءت كإجابات لأسئلة كبرى، واستجابة لما كان يقف وراء علامات الاستفهام الكبيرة التي كانت تحاصر شعوب الشرق القديم..

الأساطير والمدونات الأدبية والغنائية والموسيقية والشعرية، ولاحقاً الديانات، وما احتوت على معانٍ وأفكار تشفّ عن بعد تأملي وطول تفكير، شكلت عنواناً عريضاً لثقافات الشرق.. هذه حقائق لم يعد باستطاعة أحد أن ينكرها أو ينفي وجودها في تاريخ الشرق، ولا أحد يستطيع أن ينكر أيضاً أنها شكلت فيما بعد دعائم وركائز أساسية ليس في ثقافات الشرق وحسب، إنما في ثقافات العالم القديم بشكل عام.

ويبدو السؤال ضرورياً حول مشروعية الحنين الدائم إلى الماضي في هذا الشرق، وتحول "النوستالجيا" من حالة سوية وطبيعية هي في صميم النفس البشرية إلى حالة مرَضية ومعطلة لكل الطاقات والإمكانات والتحفيز التي لا تنكر ذلك الماضي ولا تتنكر له، ولكنها تسعى إلى مواكبة ومحاكاة العصر ومنتجه الثقافي الراهن، وفتح آفاق واسعة ورحبة وجديدة لثقافتنا المعاصرة.

المرض والتعطيل يكمنان في النموذج الشائع والسيئ الصيت وعلى كافة المستويات، والمتمثل في التغني بالماضي والوقوف على أطلال الأجداد ومنجزاتهم عند مواجهة أي مأزق ثقافي أو عند الإحساس بالعجز عن مواكبة العصر الذي يطل علينا كل يوم بمنجز حضاري وثقافي جديد لا نكاد نتآلف معه حتى يمدّنا بمنجز جديد آخر.

نعم.."النوستالجيا" حالة سوية وطبيعية يمتاز بها الإنسان عن باقي الكائنات، ولكنها قد تتحول من نعمة إلى نقمة حينما نتمترس خلفها منكفئين في محاولة يائسة لتحويل حضورنا في هذا العالم وعلى كل الصعد إلى ما يشبه الكائن الذي يرفض الخروج من شرنقته خوفاً من مواجهة العالم، رافعاً شعارات مثل: نحن الذين قدمنا للعالم كذا وكذا.. أجدادنا فعلوا كذا وكذا.. لولا حضارتنا لما وصل العالم إلى ما وصل إليه اليوم.. وغيرها الكثير من الشعارات التي لا تجافي الحقيقة ولا ينكرها أحد، إلا أنها وعلى المقلب الآخر باتت تشكل حالة هروب عرجاء لاستحضار دائم للتاريخ تكاد تفقدنا القدرة على التمييز بين قيم ومفاهيم لم تعد صالحة، يعني أكل الدهر عليها وشرب و... وتقيأ آلاف المرات، وبين قيم ومفاهيم أخرى تبدو صالحة ليس بحرفيتها كقوالب جاهزة ومعلبة مسبقاً، إنما كأرض خصبة يمكن إعادة البذر والزرع فيها بما يمكنها من مواكبة العصر وامتلاك الأدوات الملائمة للدخول في السباق المحموم بين شعوب الأرض، وبالتالي امتلاك القدرة على المشاركة في الفعل الثقافي والحضاري المعاصرين، وليس الاكتفاء بدور المتفرج أو المتلقي أو المتوجس الشكّاك الخائف من كل جديد، والمستعدي له بشكل مسبق على خلفية أصبحت بائسة وهشة تقول: هذا الجديد جاء ليلغي الماضي!!.

نفخر بماضينا ونحترمه.. نعم، ولكن ليس هذا كل شيء.. أن ندرك ونعي ما كنا عليه في الماضي مسألة تبدو في غاية الأهمية، ولكن الأهم إدراك ما نحن عليه الآن!!.