ليس تهمة بل حقيقة القول ان الدبلوماسية العربية في الغالب الأعم مترددة تفتقد للمبادرة ولا تستفيد دائماً من الظروف والوقائع لتحقق إنجازات لبلدانها أو للعرب عامة وتحصر اهتمامها بالانشغال بالعلاقات مع الدول الكبرى، وتستنزف وقتها وإمكانياتها وجهودها في تطوير علاقاتها مع هذه الدول وتهتم خاصة بالعلاقات السياسية.

سواء لاتقاء شرور الكبار وضغوطهم وتخفيف مطالبهم أم لكسب ودهم والحصول على دعمهم في هذا الموقف أو ذاك، وربما للاستفادة منهم في دعم النظام السياسي المعني بما لهذه الدول من قدرة وإمكانيات، أما ما عدا ذلك، وأعني تطوير العلاقات الاقتصادية متعددة الجوانب مع الشعوب والدول الصغرى، أو مع مناطق أخرى في العالم أقل أهمية سياسية أو عسكرية.

فذلك قلما تهتم به الدبلوماسية العربية إلا في حالات نادرة، غالباً ما يكون الآخر هو المبادر فيها والساعي إليها، وبالمحصلة استغرقت العلاقات السياسية مع الدول الكبرى مجمل نشاط دبلوماسيتنا ووسائل الإعلام والثقافة ومؤسسات المجتمع المدني في بلادنا بما في ذلك العلاقات الرياضية.

والمثال على ذلك عدم اهتمام العرب بجمهوريات آسيا الوسطى الخمس التي استقلت منذ أكثر من خمسة عشر عاماً عن الاتحاد السوفييتي، وغمرها ويغمرها مناخ موات لتجديد العلاقات مع البلدان العربية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وغيرها.

حيث إن تجديد هذه العلاقات وتمتينها وتعميقها لا يلاقي عائقاً بل ربما يكتشف من يود تحقيق هذا الهدف تسهيلات واسعة الطيف، وترحيباً رسمياً وشعبياً كبيرين، وبلاداً تفتح أيديها لترحب بالشقيق والشريك التاريخي العربي.

تبلغ مساحة جمهوريات آسيا الوسطى الخمس (أوزبكستان وطاجيكستان وتركمنستان وكازاخستان وقيرغيزيا) مجتمعة أكثر من أربعة ملايين كيلو متر مربع ويتجاوز عدد سكانها الستين مليوناً، وتحتل وسط العالم القديم وتتمتع بموقع (جيوبوليتكي) فائق الأهمية، فهي تحاذي الصين وروسيا وإيران وتركيا وقريبة من الهند، ولذلك لعبت قديماً دوراً هاماً في الاقتصاد العالمي بسب طريق الحرير الذي يمر بها وكان يشكل عنواناً لفعالية التجارة العالمية.

وأكثرية سكان هذه الجمهوريات من المسلمين وكانت طوال العصر الوسيط شريكاً للعرب في بناء الإمبراطورية العربية الإسلامية والحفاظ عليها والمساهمة في الإنتاج الثقافي العربي.

وقد برز من أعلامها البخاري وابن سينا والخوارزمي والترمذي والنسائي وكلهم من عباقرة الحضارة العربية الإسلامية، وأصولهم من هذه البلدان ويشكلون قاسماً مشتركاً بين الثقافة العربية وثقافة شعوبها، هذا فضلاً عن أن سكان هذه المنطقة كانوا شركاء في بناء الحضارة العربية الإسلامية، ولعل مدن سمرقند وبخارى وخوارزم ومرو وترمذ هي نتاج الحضارة العربية الإسلامية ومثال عن تطورها بتخطيطها وأسلوب بنائها ووظائفها وجمالياتها وغير ذلك.

لقد تماهت ثقافة شعوب تلك المنطقة مع الثقافة العربية خلال عشرة قرون مما رسخ الحضارة العربية الإسلامية في هذه المنطقة، ومثلما أخذت ثقافة هذه الشعوب من الثقافة العربية فقد أعطتها وبقيت طوال قرون العصر الوسيط وكأنها شعوب عربية.

ولم يتضاءل أو يخمد احترام سكانها للثقافة العربية وللعرب عموماً وإحساسهم بالانتماء لهذه الثقافة حتى عصرنا الحاضر، ومازالوا يشعرون بوجود ما يجذبهم للعرب باعتبارهم حملة الإسلام ورافعي رايته.

مع الأسف نكاد نحن العرب لا نعرف شيئاً الآن عن هذه البلدان، فلا نجهل تاريخها فقط وإنما أيضاً حاضرها وواقعها وظروفها وهمومها واهتماماتها وقد نصاب بالدهشة مثلاً عندما نعرف أن دخلها القومي مجتمعه يتجاوز (250) مليار دولار سنوياً، أي أن الدخل الفردي فيها يتجاوز أربعة آلاف دولار سنوياً.

وهي بالتالي تتدبر نفسها اقتصادياً سواء على نطاق الدولة أم الأفراد وليست بحاجة لمساعداتنا التي يخشى بعضنا ان يضطر لتقديمها إذا متّن علاقاته معها، ومن المعروف تنوع ثرواتها وغناها بالنفط والغاز والذهب والثروات المعدنية الأخرى التي تخبئها أراضي هذه الجمهوريات.

أغرى الموقع (الجيوبولتيكي) لهذه الجمهوريات الدول الكبرى فحاولت كسب ودها وتطوير علاقاتها معها وخاصة في مجال التواجد العسكري فيها، وهذا التواجد هو عادة على رأس اهتمامات الدول الكبرى فأقيمت على أراضيها ثماني قواعد عسكرية لهذه الدول: ثلاث قواعد روسية واثنتان أميركيتان وواحدة لكل من الهند وفرنسا وألمانيا.

ذلك لأن هذا التواجد العسكري يأخذ طابعاً استراتيجياً هاماً للدول ذات النفوذ العالمي أو الطامحة بالنفوذ والتي لها استراتيجيات كونية وفي الوقت نفسه أقامت هذه الدول الطامحة على التوازي علاقات اقتصادية معها فضلاً عن علاقات أخرى متعددة الجوانب في مختلف المجالات، واهتمت خاصة بالعلاقات الثقافية واستقبال الطلاب والمتدربين وتقديم الخبرات وغيرها.

لقد اهتمت بها أيضاً تركيا وإيران بحكم الجوار واللغة والدين فبعضها يتحدث التركية والآخر الفارسية وجميعها دول مسلمة، وإن كان مفهوماً وطبيعياً اهتمام تركيا الجارة وشريكة بعضها في اللغة والدين واستقبالها الطلاب والمتدربين.

والأمر نفسه بالنسبة لإيران التي تملك المعايير نفسها فإنه من اللافت الجهود الكبيرة التي بذلتها إسرائيل لإقامة علاقات دبلوماسية معها منذ اليوم الأول لاستقلالها وتمتين هذه العلاقات وتقديم الخبرات الإسرائيلية واستقدام المتدربين منها وتوجيه الاستثمارات إلى هذه البلدان ودعوة رؤسائها لزيارتها، حتى كادت أن تكون ملعباً مفتوحاً لإسرائيل، في الوقت الذي غاب فيه العرب (كما هي العادة) فلا هم أقاموا علاقات دبلوماسية مباشرة معها (معظم السفراء العرب غير مقيمين).

ولا زادوا المبادلات التجارية ولا استقدموا المتدربين ولا أرسلوا الخبراء ولا فتحوا المراكز الثقافية واستفادوا من تراكم ثقافي في هذه البلدان يصلح لإعادة نشر الثقافة العربية بسهولة ويسر، ولا حاولوا حتى أن يعرّفوا شعوبهم بها وبظروفها ومازالت بالكاد موجودة على خريطة السياسة العربية أو الدبلوماسية العربية.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)