واللافت جداً في هذه التصريحات العلنية أن بيريس يعترف هنا أنه بدلاً من أن ينتقم من النازيين بسبب ما فعلوه في الحرب العالمية الثانية ضد الأوروبيين والعالم ومن ضمن ذلك يهود أوروبا توجه هو وحركته الصهيونية بالانتقام نحو الفلسطينيين في فلسطين وأنشأ دولة قامت على ارتكاب مجازر لا تقل وحشية عن مجازر النازيين ضد الأمة العربية والشعب الفلسطيني لاغتصاب وطن الفلسطينيين وإقامة إسرائيل.

وقد تزامن خطاب بيريس حول الحدث الذي تطرق إليه في بولندا وكان قد وقع في نيسان 1943 ضد عدد محدود من سكان الحي اليهودي في وارسو مع نيسان الذي ارتكبت فيه المنظمات الصهيونية المسلحة مذبحة ديرياسين عام 1948 التي تسببت بمقتل مايزيد على 250 من الأطفال والنساء والشيوخ العزل.
وحين كان بيريس يعلن عن هذا الانتقام من الشعب الفلسطيني بدلاً من أن ينتقم من النازية لم يكن العالم يتذكر المذابح التي كان هو أحد مرتكبيها إلى جانب ديفيد بن غوريون في ذلك الوقت فلا أحد يطالب بمحاكمة بيريس الذي كان وهو في سن العشرينيات يخدم في جيش ديفيد بن غوريون في الأربعينيات وما جرى فيها من مذابح ضد الفلسطينيين.

ففي عام 1947 كان بيريس أحد ضباط منظمة (الهاغاناة) وهي الجيش الرئيسي للحركة الصهيونية في فلسطين المحتلة من البريطانيين في ذلك الوقت وهو أحد المسؤولين مباشرة عن إدارة وزارة الدفاع الإسرائيلية حين كان مديراً لها منذ عام 1952 وما جرى في سيناء وقطاع غزة أثناء احتلال الجيش الإسرائيلي للقطاع عام 1956 من أعمال وحشية يتحمل بيريس مسؤولية فيه.
ويقول (بيريس) في وارسو على طريقة من يزيف التاريخ ويعيد كتابه فصوله بحسب مصالح الحركة الصهيونية وإسرائيل إن دول أوروبا لم تفتح أبوابها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء على النازيين لليهود الأوروبيين الذين نجوا من النازية!؟ والحقيقة واضحة في دول الاتحاد السوفياتي وبولندا نفسها وبقية دول أوروبا الشرقية التي عاد إليها اليهود المواطنون من مختلف أرجاء أوروبا ثم قامت الحركة الصهيونية بتهجير عدد منهم في عام 1947-1948 أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بثلاث سنوات، ويضيف بيريس في خطابه:
«ولأن دول أوروبا والعالم لم تفتح أبوابها لهؤلاء اليهود فقد فتحت لهم الحركة الصهيونية الأبواب نحو فلسطين التي أنشأ اليهود فيها دولة إسرائيل» واعتبر أن تهجير هؤلاء اليهود إلى فلسطين في تلك السنوات كان أيضاً «شكلاً من أشكال الانتقام والثأر من النازيين»!؟

ثم حدد شكلاً آخر للانتقام من النازيين يتعلق بالعرب جميعاً هذه المرة فقال أمام معظم ممثلي دول أوروبا والعالم في وارسو أول من أمس: «وكان الانتقام من النازية قد تحقق أيضاً حين لم تسمح إسرائيل للعرب الذين شنوا خلال ستين عاماً سبع حروب ضدها بتحقيق النجاح في تصفيتها وبهذه الطريقة انتقمنا من النازيين»!؟
ثم أضاف متطرقاً إلى الانتقام الراهن الذي تريد إسرائيل تحقيقه ضد العرب باسم «الثأر من النازيين» قائلاً: «وما دامت إسرائيل ما تزال ترغب في تطبيع علاقات الدول العربية معها رغم الحروب والانتفاضات والتهديدات التي تشكلها عملية تخصيب اليورانيوم فإنها حين يتحقق لها ذلك تكون قد انتقمت أيضاً وانتصر ابناؤها أبناء النور على أبناء الظلام!؟»

فنحن العرب الذين يريد بيريس فرض تطبيع علاقاتنا مع دولته المغتصبة دولة الاحتلال والمجازر والتنكر لحقوقنا فوق ترابنا الوطني، يطلق علينا اسم «أبناء الظلام» أمام ممثلي دول أوروبا والعالم وكأننا نحن «النازيون» ولسنا ضحايا «الصهيونية» التي حلت محل النازيين بعد الحرب العالمية الثانية وارتكبت مجازرها بشكل أشد وحشية وبربرية.
لقد أنشأت إسرائيل والحركة الصهيونية في كل دولة أوروبية مؤسسات سياسية وإعلامية تفوق بدورها ومهامها سفارات إسرائيل كلها في تزييف تاريخ إسرائيل والحركة الصهيونية وفرضت على مؤسسات النشر والإعلام قيوداً تمنعها تحت طائلة المحاسبة والعقوبة من تفنيد مزاعم إسرائيل التي تستغل ما حدث في الحرب العالمية الثانية لتحقيق سيطرة ونفوذ في كل مكان.

فمن صناعة «المحرقة» إلى صناعة «الانتقام» تتواصل الحملة الإسرائيلية على جميع العرب الذين يطلق عليهم بيريس «أبناء الظلام» ويسعى من خلال الدعم الأميركي إلى فرض شروط الاستسلام على العرب. ويخطئ الكثيرون في النظام العربي الرسمي إذا ما اعتقدوا أن ما يسمى «السلام» واتفاقات «السلام» مع هذه الدولة أو تلك سيقتصر على علاقات دبلوماسية وعدم التدخل الإسرائيلي في كل شأن من شؤون تلك الدولة سياسياً وتربوياً ودينياً.
ولا يخفي عدد من المسؤولين في إسرائيل هذه الأهداف حين يطلب بعضهم من البرلمان الإسرائيلي مناقشة أفكار تظهر في كتب تصدر بالعربية داخل بعض الدول التي وقعت اتفاقية سلام مع إسرائيل لمطالبة هذه الدولة بمنع السماح بنشرها.
فقد جمع أعضاء في الكنيست الإسرائيلي بعض الكتب التي تتحدث عن الصهيونية وعلاقتها بالنازية لإعداد قائمة بأسماء وعناوين كتب وكتاب لا ينبغي أن تسمح بنشرها هذه الدولة أو تلك لأنها تتناقض مع تطبيع العلاقات!

وإذا ما استكان النظام العربي لمثل هذا الابتزاز الصهيوني وتزييف التاريخ، لا قدر الله، فسوف تتجرأ إسرائيل ذات يوم على مطالبة هذه الدولة أو تلك بعدم تسمية «المقاومة» بالمقاومة لأن ذلك لا يخدم «سياسة التطبيع»!؟

عن جريدة الوطن السورية.