أيًّا كانت عيوب النظام المصري فإنني أشهد له أنه الأكثر إمتاعًا وإيناسًا في ممارسة السياسة بين أقرانه في كل البلاد التي تضبط ساعتها على زيارة الآنسة "رايس". صحيح أن أكثر الأنظمة العربية – شأنها شأن قرينها المصري - مستبد نخر الفساد فيه حتى خرق الجلد إلى اللحم فالعظم وصولاً للنخاع؛ إلا أن نظام شرم الشيخ يقدم هذا كله في قالب إعلامي ضاحك يروح عن النفس. يحصل هذا طبعًا بشكل غير مقصود؛ وترد تلك الفكاهة غالبًا في سياق كان الإعلام المصري الرسمي يحب معه أن يكون في منتهى الجدية والتجهم! لكن هذا لا ينتقص من قيمة الفائدة العظيمة في منع اجتماع "ثقل الدم" مع خراب الديار كما يحصل في إعلام مضارب قحطانية أخرى!

ومؤخرًا بلغ النظام المصري نهاية الأرب في الترويح عنا من خلال الطريقة التي اجتهد فيها في ابتعاث فكرة مصرية سيناء من أجداث النسيان ومقابر فقدان الذاكرة. فجأة وبدون سابق إنذار يتذكر النظام أن هناك شبه جزيرة مصرية اسمها سيناء ويحاول أن يمنع شبه الجزيرة التي "خلفها ونسيها" من أن تكون تائهة في هويتها فيجعل هذا منها صيدًا سهلاً لاجتياحات البرابرة القادمين من الشرق (الفلسطينيين طبعًا!). مؤخرًا أمكن لأي متابع ملاحظة الزج بسيناء في مختلف برامج القناة المصرية الفضائية بمناسبة وبدون مناسبة. وحتى يصدق المشاهد أن ضيوف "صباح الخير يا مصر" أو "البيت بيتك" هم سيناويون أقحاح فإنه يجري الحرص على أن يكون الضيوف ممن يلتاثون بحطة بيضاء. أيًّا كان سياق الاستضافة وأيًّا كان الضيف فلا بد من الحطة أو الشماغ الأبيض! وهذا الحرص الكاريكاتيوري على الحطة يمثل امتدادًا لطريقة تفكير مخرجي سينما وتلفزيون "التيرسو" المصري؛ ممن يعتقدون أن جمهور النظارة مصاب بتخلف عقلي مزمن يكفيه معه أن يرى "نور الشريف" بعمة ليصدق فعلاً أنه "عمر بن عبدالعزيز" ولو نطق الجيم كما ينطقها أهل القاهرة في القرن العشرين! ولو أشار لخريطة للدولة الأموية يزين صدرها موقع مدينة بغداد التي كان أكبر بنائيها سنًّا في علم الغيب بعد أو يُخَلَّقُ في الأرحام أيام شباب وفتوة نور بن الشريف بن عبد شمس!

حطة بيضاء تعني أن سنياء في القلب؛ فافهم أيها الجمهور ذو الرأس السميكة! وبعد ذلك تتتابع النكات غير المقصودة؛ فتتكلم المذيعة الخرقاء عن سيناء كما لو كانت تتكلم عن أحد أقاليم أمريكا اللاتينية. فهي تسأل بدهشة وجهل مطبق عن جبل الطور وعن صخور سيناء وعن جمال سيناء – جمال جمع جمل وهو ابن الناقة - كأنها سائحة من اليونان. وتحاول عبثًا أن تجد سببًا واحدًا لتطري حكومتها العتيدة تجاه ما تصنعه في سيناء – كأن هناك شيئًا يستحق الإشادة في أن تتحمل حكومة ما مسؤولية منطقة من مناطق نفوذها – فلا تجد أكثر من شق شارع أو حفر بئر! وحتى حين يحاول الضيف "أبو حطة" أن يستر عورات النظام في محافظته فإنه يتقدم بالشكر "للحكومة المصرية" كما جاء في كلامه حرفيًّا! فهل هناك مواطن ينسب حكومة بلاده للوطن – وطنه هو - في كلامه العادي؟! اللهم إلا إن كان يشعر أنه ليس من هذه الحكومة وليست منه؟

لكن هذه هي الحقيقة؛ فأهل غزة يعرفون أن أهل العريش يصفون سكان الوادي خلف قناة السويس بأنهم "مصريون". هم لا يشعرون أنهم جزء من دولة النظام الذي أهمل جزيرتهم الغنية الثرية بالنفط والمعادن وبمصدر مدرار للعملة الصعبة – قناة السويس – ناهيك عما يمكن أن تعود به السياحة الدينية وسياحة الطبيعة في صحراء وجبل وبحر سيناء. أهل سيناء لا ينالون من خيرات أرضهم شيئًا؛ فجاذبيتها منتهبة للسياح الغربيين القادرين على الدفع بالعملات الصعبة أو السياح الصهاينة الذي يفجرون في الأرض كما يحلو لهم. وللصهاينة هؤلاء نصيب مضاعف أضعافًا عديدة في نفط الجزيرة التي تسقي جميع الأعداء وتموت هي مثل العيس من الظما والماء فوق ظهورها محمولُ...

لو كانت غزة على حدود غير مصر لاجتمع عليها مع الحرب والعدوان ثقل ظل لا حدود له؛ لكن والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه يجاور غزة نظام يعتمد الخفة شرطًا من أشراط المُلْك! نظام يعتقد أن الحرب على غزة وحرف بوصلة أبناء الشعب المصري الحي الأصيل ضد غزة يشتريان بمجرد ذكر درجة حرارة رفح المصرية في نشرة الأحوال الجوية؛ وبإرسال شيخ غريب عنها ليخطب الجمعة وتبث قناة الدولة الرسمية غمزه ولمزه في أهل غزة من هناك!

ألا تبًّا لأنظمة "التيرسو" وتعسًا لأنظمة الكاميرا الغبية!