لتأتي زيارة الرئيس بوتين إلى باريس، حيث لا يفرق الأوروبيون حالياً بين رئيس الوزراء ورئيس الكونفدرالية الروسية، لتضفي نكهة خاصة على هذه التحولات الدولية والإقليمية. وتؤكد المصادر الروسية والفرنسية المتطابقة أن الرئيس بوتين يحمل معه مسودة مشروع العلاقات المستقبلية على شكل «دفتر شروط» لمستقبل العلاقات بين أوروبا وروسيا وبين باريس وموسكو على وجه التحديد، شروط تتضمن الشرق الأوسط وضفتي الخليج العربي وإفريقية وشرق أوروبا. هذه الملفات تبدو متشابكة تجاه الروس ويرفضون عزل أحدها عن الآخر في الوقت الذي تسعى فيه باريس وبروكسل إلى التأكيد أنها منفصلة على حين يرى الآخرون أنها مرتبطة أكثر من أي وقت مضى.

بوتين يعرف جيداً أن فصلها يعني استمرار التأزم العالمي واستمرار حرب الاستنزاف التي بدأت منذ اليوم الأول لولاية بوش وتريد الإدارة الأميركية استكمالها استعداداً لعودة المحافظين الجدد للسلطة في الولايات المتحدة وعدد من البلدان الأخرى الأوروبية والشرق الأوسطية واعتبار التراجعات التي حصلت منذ عدة أشهر وكان الملف اللبناني صورة لها، مسألة ظرفية وتكتيكية. على حين يرى بوتين أن الفرصة سانحة لوضع حد نهائي لحرب الاستنزاف هذه.

الفرنسيون منقسمون حول الموضوع فبعض المقربين من الرئيس ساركوزي يتبنون وجهة نظر تفاؤلية تقول: إن على فرنسا ألا تتراجع أمام هذا الواقع الجديد وإن المحافظين الجدد عائدون إلى السلطة لا محال. على حين يرى آخرون أن الحكمة ومصلحة فرنسا وأوروبا تقتضيان التعامل مع الواقع الجديد ببراغماتية وأن فرنسا ما زالت تمتلك أوراقاً تساعدها على العودة إلى مركز القرار الدولي بعد أن خسرت هذا الموقع نتيجة خروجها عن محورها الطبيعي ورهانها على نصر
حاسم للإدارة الأميركية.

الأوروبيون الآخرون عبروا أيضاً عن ضرورة الإفادة من الفرصة التاريخية حالياً والإفادة من العرض الروسي أو دفتر الشروط الروسية وهو ما تدرسه الدوائر الفرنسية بسرعة وجدية ليكون مركز الاهتمام إبان الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي نهاية الشهر القادم.
وترى الدوائر الفرنسية أن مسودة دفتر الشروط الروسية التي يحملها بوتين إلى باريس فيها الكثير من الإيجابيات حول أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى وخاصة أنه يحمل تعهدات بأن تكون روسيا عاملاً إيجابياً في تأمين المصالح الاقتصادية للأوروبيين في تلك المنطقة مادامت هي مصالح مشتركة وأنها ستأتي من دون تضحيات أوروبية سياسياً وأمنياً وعسكرياً وهو ما يغري الأوروبيين.

أما في إفريقية فيبدو واضحاً أن بوتين يحمل شروطاً صينية أكثر من كونها روسية لكن باريس تريد التقاطها بسرعة مادامت تضمن نجاح مشروعها المتوسطي وأمنها السياسي في دول المغرب العربي عبر دور روسي متفق عليه في كل من الجزائر وليبيا وهما الدولتان المفتاحان حالياً لشمال إفريقية ككل والمفتاح أيضاً لحل مشرف لفرنسا سواء من وحل المتوسط أو من الرمال التشادية - السودانية، حيث تؤكد المصادر الفرنسية أن بوتين يحمل عرضاً لن تستطيع باريس وأوروبا رفضه في الواقع الحالي ويعرض قيام فريق عمل مشترك أوروبي – روسي –صيني – أميركي - إفريقي بمشاركة واسعة من ليبيا وجنوب إفريقية لوضع تصور لحل تلتزم فيه مختلف الأطراف. كما يحمل بوتين في دفتر شروطه اقتراحات وأفكاراً تتعلق بملفات الشرق الأوسط يمكن أن تكون مدخلاً لحل مشكلة الملف النووي الإيراني بشكل مشرف لجميع الأطراف ويتضمن ضغطاً أوروبياً متزايداً على الولايات المتحدة لوقف مشروعاتها الأحادية لمصلحة مشروع مشترك أوروبي روسي برعاية الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، ويبدو أن باريس تريد تلقف هذا العرض الروسي على أن يتم إعداد تفاصيله خلال شهر أي قبل تسلم باريس الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي.
حيث ترى باريس أن مصالحها الحيوية المباشرة وغير المباشرة مرتبطة بهذين الملفين (الإيراني والإفريقي). حيث إن الملف العراقي الشائك والخطير يتعلق بالملف الإيراني بشكل مباشر وهو الملف الذي يربك باريس في علاقاتها الشرق أوسطية ومع الولايات المتحدة.

حيث تقول المصادر الفرنسية إن الولايات المتحدة تضغط منذ احتلالها للعراق على الدول الأوروبية وتحديدا فرنسا للانخراط كلياً بإستراتيجيتها في العراق وتعمل على قطع أي علاقة إيجابية بين إيران والاتحاد الأوروبي لمزيد من توريط الأوروبيين بالإستراتيجية الأميركية في العراق. لذا فإن عرض بوتين الذي يتضمن أيضاً موافقة روسية قد يكون مخرجاً لجميع الأطراف رغم أن الولايات المتحدة أرادت وسعت بكل وسائلها إلى تصعيد الموقف استباقا لقبول أوروبي بعرض روسي.

الفرنسيون لا يخفون فرحتهم أيضاً بتسوية الدوحة التي كانت نتيجة لتطورات في المواقف الإقليمية والدولية. فالقيادة القطرية بالنسبة لهم حليف صادق ولا يضيرهم أن تحصد الدوحة نتائج هذه التسوية التي لم تستطع كل من مصر والسعودية لعب أي دور فيها.
وهذه التسوية بالنسبة لباريس فتحت لها أبواباً جديدة في المنطقة وحررتها من التزاماتها السابقة حيث باتت منفتحة على كل الاحتمالات، فخطوطها مفتوحة مع حماس ومواقفها مقبولة من الوضع في فلسطين ولم تغلق مع أطراف المعارضة اللبنانية، رغم الكلام الوقح لوزير خارجيتها يوماً بحق رئيس مجلس النواب اللبناني الذي عاد واعتذر عنه. وباتت مفتوحة مع دمشق وعبرها مع طهران.
وتنتظر وصول الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني رئيس الوزراء القطري ليفتح لها دوحته. ولا تبدو باريس محرجة أمام المملكة العربية السعودية في علاقاتها مع ليبيا التي تعتبرها بوابة إفريقية ولا مع قطر البوابة الخليجية، ويتساءل الفرنسيون لماذا تحرجنا السعودية فماذا قدمت لفرنسا لنرد عليها؟