يتجه ( اليومين دول ) الكثير من المحاضرين ومقيمي الندوات الثقافية ، وكتاب المقالات والزوايا والملاحق الصحفية ، الى طرح القيم الأخلاقية بهدف تنشيطها و الدفع بها لاستعادة دورها كما يتخيلون أنه كان موجودا في وقت من الأوقات ، وينطلق هؤلاء كل هؤلاء من مسلمة ( مشكوك تماما بصحتها ) بأننا نمتلك القيم الأخلاقية المثالية و( لكنهم ) أي الغرب يحاولون ( تشليحنا ) أياها ، اما بالفعل المباشر ( غزو ، اجراءات ، اعلام ) أو بالفعل غير المباشر الذي يتمثل بتبني مثقفينا قيم الغرب والعولمة والى ما هنالك من هذا ( الردح ) ، ليصلون الى نتيجة تبسيطية وللبسطاء أن هويتنا هي قيمنا الأخلاقية التي يفتقد اليها العالم المعاصر والغرب تحديدا ، صحيح أن قيمنا الأخلاقية لم تفعل ولا مرة ككتلة كبرى في تاريخنا ولكن هذا ( لا يعني ) انها غير موجودة اذا ( ثاقبت ) الظروف والشروط الموضوعية لتطبيقها ، وعندها سوف نشهر للعالم هويتنا . أما الآن فعلينا فقط كشف الخديعة ومقاومتها ( أي دون أي تساؤل أو اسئلة ) وبعدها سوف نطبق قيمنا الأخلاقية ونشهر هويتنا في وجه العالم!!!!!

لا أدري من أين يأتي هؤلاء المحاضرون والكتاب بملاحظاتهم القطعية تلك ومن بعدها صياغة العبارات كشعارات أو كأقوال مأثورة قطعية على البشر الامتثال لها فهي اليقين الكامل ..مثل : ( ساد في الواقع لدى الحكام والمثقفين تقليد أعمى للأفكار والمفاهيم الغربية ) أو ( الحياة اليومية غدت تقليدا للغرب ونمط حياته وأدى هذا الى نتائج وخيمة ) أو ( الحكام والمثقفين يمثلون فكر المجتمع " وارادته "وعندما يشل الفكر والارادة يشل الجسد ، وهذا ما قاد " الأمة "الى كارثة وطنية وقومية ) أو ( راح المفكرون يكتفون باجترار أفكار الغرب دون هضمها أو فهمها ) أو ( لقد تحول الانسان الى شيىء وسلعة تلهث وراء الملذات والمصالح وهذا أمر ينذر بعواقب خطيرة ) أو ( دعى المثقفون الأمة للعودة الى ذاتها ولكنهم لم يتمكنوا من الصمود أمام المد التغريبي الذي دعمه الغرب ) والى ما هنالك من تعليمات ( مثل وصفات الطبخ ) تنجح لمجرد تطبيقها .

في خضم هذا المحاضرات والكتابات والندوات ، نسي الجميع الزمن كمختبر معياري لصلاحية الأفكار والقيم الأخلاقية ،ونسوا المجتمع الذي ينتج عبر تفاعله الأفكار والقيم الأخلاقية ، كما نسوا( وهذا أهم ) السؤال أو الأسئلة المحرك الأساسي للاستجابة للحياة ، هذه النسيانات تعبر بدقة عن الاستغناء التام ( على ما في هذا الاستغناء من تهويم وخديعة ) عن دور الكائن البشري ( صاحب المصلحة ) في انتاج قيمه الأخلاقية ، والاعتماد على مصادر يقينية غير تجريبية أي غير حياتية ولا تخضع للسؤال والمسائلة أثناء الحراك الارتقائي للمجتمع ( الارتقاء ضرورة ) ، من هنا بدت الأقوال المأثورة أعلاه جمل غير مسؤولة وغير محاسب عليها ، فهي أضواء في عتمة ولا برهان على عتمة الليل المفترض لأنه وبتبسيطية ممضة ...ليل .

من جهة أخرى يبدو هؤلاء الكتاب والمحاضرون ، على ثقة بالقيم الأخلاقية التي يتبناها كل فرد في المجتمع كبدهية ( الشرف ، عدم السرقة أو القتل عدم الرشوة الخ الخ ) ومع هذا نرى واقعيا أن هذه القيم متهاوية تماما ( الفساد ، جرائم الشرف ) بالاضافة الى انسداد التعاريف المفضية الى هذه القيم الأخلاقية التي ينادي بهاهؤلاء مثل تعاريف ( المال العام ـ الحياء العام ـ الشرف بمى يعني العرض الخ الخ )، وكأن المطلوب هو ازالة كل الزمن وما احتوى من تفاعلات واختراعات وبنى ومؤسسات ، وابعادها مسافة كافية ومن ثم البدء بتأسيس مدينة فاضلة على قياس يجرب دفعة واحدة ولأول مرة ودون مسؤلية من أحد . ومع استحالة تأمين هكذا ظرف علينا أن نبقى في حالة استنفار شتائمية تدعى بالمجاز ( وعيا ) يمكن توظيفه في مشرع مبهم لا يستطيع أحد اثبات خيره من شره .

في الحياة البشرية الانسان هو من يضع القيم الأخلاقية وهو من يخرقها تهديما أو بناء ، فمصلحة الانسان أن يعيش بأمان وشبع وكرامة تحددها الظروف الموضوعية في الدنيا فمجتمع لا يملك الا السياحة كدخل قومي ( هذا مثال فقط ) عليه تطوير قيمه الأخلاقية بالنظر الى هذه الأمكانية وليس تقليد مجتمعات النفط لأن قيمهم ألاخلاقية ( أحسن ) كمعيار وليس أرقى أو أكثر فاعلية أو أكثر تحقيقا للمصلحة .

لكي تصبح القيم الأخلاقية تعبيرا عن الهوية ،الانسانية أو القومية على الانسان أن يضعها ويطبقها ويكون مسؤلا عنها ، لأنه سوف يلمس نتائجها وهو حي سلبية كانت ام ايجابية ...... فنحن نتكلم عن الحياة في الكرة الأرضية التابعة للمجموعة الشمسية التي تنتمي الى مجرة درب التبانة ...... والخ

ملاحظات:

ـ الشواهد الموجودة بين قوسين مأخوذة من ( جريدة تشرين الدمشقية تاريخ 12 ـ5 ـ 2009 ) وجريدة الوطن الدمشقية العدد (656)

ـ الأمة : مفهوم غربي ، من عصر النهضة جاء في خضم التنظير لعصر القوميات وقد فهمه الكثير من مثقفينا ومفكرينا ولم يجتروه

ـ الاجترار ، عملية هضمية تقوم به الحيوانات الثديية غير اللاحمة وهو عبارة عن أعادة مضغ الطعام بعد ابتلاعه وهو وبالمناسبة عملية مفيدة للحيوان م الناحية الصحية ، وللأنسان من حيث تأمين اللحم والألبان والأجبان .