تناقلت وسائل الإعلام أخبار تظاهرات في مدن العالم تنديداً وشجباً وتذكيراً بالسنوية الأولى للجريمة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق قطاع غزة وسكانه على مدار ما يقارب الشهر ليلاً ونهاراً ودون توقف وعلى مرأى من العالم كله، ومن ضمنه العربي بالطبع.. مذبحة ارتكبت بالشروط والمعايير الفاجرة نفسها من جهة، وضمن معايير وطقوس الإدانات المكرورة من جهة ثانية.

في الوقت عينه تناقلت وسائل الإعلام أيضاً خبر إحياء الذكرى في قطاع غزة حيث تم نشر صور وأسماء 1500 شهيد غزاوي على لوحة عملاقة، كانوا حصيلة العدوان الآثم، وجلّهم لم يكن من المقاومين ولا من الرجال الذين يحملون السلاح دفاعاً عن الحق في الحياة.

إذاً، مر عام على المجزرة التي اختارت لها آلة القتل الإسرائيلية مبدأ الموت السريع الخاطف لسكان القطاع.. وبعد أيام قليلة لا بد سنقول: أكثر من عام مرّ على مجزرة الموت السريع الذي ربما يكون قد توقف نسبياً، لكن الموت البطيء ومن المصدر ذاته ما زال فاعلاً على الأرض دون تراجع أو توقف.

بحر غزة محاصر بالبوارج وسفن الحرب والقنص والقرصنة الإسرائيلية، وبرّها محاصر بالدبابات الإسرائيلية، وثمة فتحة واحدة لتنفس الهواء والحياة والأمل بالقدرة على الصمود والمقاومة اسمها الحدود مع سيناء، وها هي اليوم تُسد من قبل "الأشقاء" بجدار لن يكون هذه المرة كزملائه فوق الأرض، تكريساً لثقافة الجدران السائدة هذه الأيام، إنما تحتها، أي سدّ الأنفاق التي تشكل أملاً أخيراً للغزاويين بعد أن سُدت في وجوههم سبل التنفس وتنشق الهواء والحياة "كحق إنساني" من فوق الأرض!!.

ماذا بعد ذلك؟!.. وما الذي يريده تجار و"بازارجيّة" الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وحقوق الطفل والمرأة، أكثر من أن يجعلوا من كل واحد من فلسطينيي القطاع مشروع موت مؤجل يطبخ على نار السياسة "الهادئة" ويبهّر بكومة من "سمومها" ومتغيراتها وقراءاتها وانعطافاتها وتحولاتها ومستجداتها التي تحتاج بالتأكيد إلى وقت. و.. كلما ولد طفل في غزة أو حتى في فلسطين كلها، نقش القدر على جبينه: أنت مشروع مؤجل لموت قادم من كل الجهات "وليس من الشرق فقط!"، قد يكون سريعاً وقد يكون بطيئاً، لا فرق، المهم أنه قادم لا محالة!.

وعلى المقلب الآخر من فلسطين، هناك قدس تضيع قطعة وراء قطعة، بشراً وأرضاً وتاريخاً وثقافة و"سياسة إذا شئتم بفضل ـ سلطة فلسطينية ـ وشخصياً لم أعرف حتى اليوم هي سلطة على ماذا وعلى من؟!..".. هناك قدس تتحول بمرور الزمن إلى مجرد ندبة تستقر في قعر الذاكرة "عند من ما زال لديهم بعض ذاكرة"، يمكن استحضارها بين الحين والآخر على المنابر وفي الخطابات الطنانة الرنانة العصماء المدبّجة، وشربها مع كل رشفة ماء من كأس يتلقفها الخطيب المفوّه بيده اليسرى، في حين أن يده اليمنى مشغولة، أيّما انشغال، في تقليب صفحات خطاب عربي ممجوج لا تُعد ولا تحصى أوراقه، تماماً كما لا تُعد ولا تُحصى مرات الإدانة والشجب والشكوى والردح والنوح التي تُمارس "كطقس شعبي متوارث" على المنابر نفسها أو على ما يشبهها منذ عام 1948 وحتى اليوم.

أهل القطاع هم، في نهاية المطاف، بشر من لحم ودم ومشاعر، وربما يستطيعون الصمود لسنة أو سنتين أو أكثر من هذا، لكنهم ـ وهذا طبيعي ـ لن يستطيعوا الصمود إلى ما شاء الله، لأنهم كباقي البشر يملكون قلباً ورئتين، وليس لديهم قلوباً ورئات إضافية فائضة عن الحاجة، ويمكن استخدامها عند الحاجة.. وهذا ما يعرفه المحاصِرون من الشرق والشمال والجنوب و.. الغرب!!. وبالمستوى واليقين نفسه يعرفه أصحاب الخطابات والمعلقات عشاق اعتلاء المنابر، وجميعهم يرددون فيما بينهم، مباشرة أو مداورة: فلتستمر عملية الحصار والتجويع والخنق والموت البطيء و.. المسألة ـ أيها السادة ـ مسألة وقت لا أكثر!.