هي مسألة إزالة جدار من الوهم، أو حذف الكلمات التي اكتسبت سمة مقدسة، فالتفكير القومي في الأول من آذار خط أحمر من يتجاوزه "يخرج عن الطاعة" ويدخل في إطار البحث عن الذات مفردا، فعلى طرفي الحياة العامة هناك مغامرة في عملية القفز على التفكير الاعتيادي، وطرح الفكرة في زمن التكفير حتى من قبل رافضي التراث والأحكام المسبقة، أو من يدعون بانهم قادرون على خلق المجتمع الجديد في زمن "الردة" نحو المقدس وباتجاه رسم "نشوء الأمم" وكأنه خط غير قابل للانزياح أو التبدد، رغم أن الشواهد السياسية على الأقل مفتوحة على كل الاحتمالات.

في التفكير القومي اليوم حالة اعتياد للخطاب النظري، ودروس على المواطن استذكارها في المناهج المدرسية أو على عتبات الأحزاب التي استطاعت بالفعل خلق "الاحتكار" العقلي فتوقف "بناء القومية" عند حدود الأسطر الأولى التي تدو وكأنها السر المقدس الذي تنطلق منه المعجزات، وفي المقابل تبدو الردة السياسية بعيدة عن مساحة التفكير، فهي تريد القيام بمحاسبة تاريخية كبرى تذكرنا بالمحاكم الدولية، فإذا ما حاول أحدهم الانطلاق فإنه سيقف عن "جدران الفصل" التي تضع التفكير ضمن حدود "التيار السائد" أو "المكتمل" حيث لا "حقيقة" سوى ذلك التراث القديم أو "المعاصر" الذي اكتسب قدسيته بحكم اعتياد المحرمات أو دخول "الهرطقة" إلى قاموس "الحداثة الشرق أوسطية".

وأسهل هروب من أزمة التفكير هو "البكاء على الأطلال" كظاهرة لم تعد أدبية، فهي حالة مؤسسة تعرفها الأجيال بحكم العادة أو المناهج المدرسية التي وضعت الشعر الجاهلي وفق صورة نمطية، فـ"جاهلية التفكير" ربما تكون مرتبطة أكثر من أي وقت مضي باسترجاع الماضي دون نبشه أو حفره معرفيا، أو تجاوزه حتى باتجاه البحث عن "النظرية" التي تشكل حالة حيوية ما بين النقض والبرهان، فمطب "التفكير القومي" الذي يخضع لعملية التكرار أو التفسير لإقناع الذات قبل الآخرين، هو وصوله إلى دائرة الاكتمال والمطلق أو "البديهيات والثوابت"، حيث دائرة الأمة غير قابلة للنقاش أو منتهية في حدود أصحابها الذين حملوا النظرية كـ"فرضية" للممارسة السياسة.

هل انتهت حدود القومية عند نداءات "الليبراليون الجدد"؟ أم أنها حبيسة الأحزاب التي لم تعد قادرة على إنتاج "ثقافة" أو رسم "التفكير القومي" في مساراته الجديدة؟ إنها ليست مجرد أسئلة للعبور إلى الأول من آذار، وهي أيضا غير موجهة لتيار يعتبر هذا التاريخ حاسما في ظهوره، لأن "المسألة القومية" لا تحتكرها فئة تعتبر نفسها وصية عليها، أو أخرى أصبح همها "الثرثرة" على مساحة سياسية مفتوحة ولكن دون "تفكير"، ففي زمن التشتت يصبح "البحث" أصعب لكنه الوحيد القادر على رسم خيوط المستقبل، ويصبح الماضي أيضا ملاذا للكثيرين لأنهم في النهاية لا يجدون مساحة معرفة متجددة.