الكاتب : جورج حاجوج

في الموروث العربي، ثمة الكثير من القصص والحكايا والنوادر الطريفة، المكتوب منها والشفهي، التي يتم تناقلها جيلاً بعد جيل، وهي على الرغم من طرافتها، إلا أنها لا تخلو من الحكمة والرسالة والمعنى والكوميديا السوداء أحياناً!.

إحدى هذه القصص أن ابن جحا جاء ذات يوم إلى أبيه وأبلغه قراره بالزواج من ابنة الملك، لأنه هائم بحبها ولا يستطيع العيش من دونها أبداً.. بعد قليل من التفكير والتأمل، قال جحا لابنه العاشق: لا مشكلة أبداً، لك ما تريد يا بنيّ.. فأنا ـ شخصياً ـ موافق وأمك موافقة وأنت موافق، ولم يبقَ أمامنا سوى موافقة ابنة الملك والملك نفسه، وهذه مسألة سهلة!.

ببساطة، يمكن إسقاط هذه الأقصوصة على ما يحصل اليوم في أقصوصة المفاوضات المباشرة الفلسطينية "الإسرائيلية"، حيث لا يكاد يمر يوم واحد إلا وتخبرنا السلطة الفلسطينية أنها ـ شخصياً ـ توافق على إقامة دولة فلسطينية "مستقلة"، والموافقة هنا جماعية، أي بكامل عدد وعديد أركان ومسؤولي السلطة.. ولم يبقَ أمامها سوى موافقة "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية و.. "هذه مسألة سهلة!".. كما هو الأمر تماماً في قصة جحا وابنه وابنة الملك والملك!.

أكثر من هذا، ومن باب استكمال القصة، فإن المراقب يستطيع أن يرسم سيناريو متخيلاً لما آلت عليه قصة جحا وابنه، فيما لو أنه تقدّم لطلب يد ابنة الملك.. ويستطيع أن يتيقّن من ردّ الملك وابنته، ومن ردّ فعل جحا وابنه الذي لن يتجاوز سقف حدود الطرح بين الأصحاب والجيران بأنهما سيعمدا إلى كل "الأساليب الأخرى السلمية!" لإقناع الملك وابنته.. لتنتهي القصة أخيراً بأن يمضي ابن جحا كل حياته عازباً.. وهذا مؤكد!.

هذا السيناريو المُتخيل، يمكن إسقاطه أيضاً على الواقع البائس للمفاوضات المباشرة الفلسطينية "الإسرائيلية".. فـ "إسرائيل" ومعها واشنطن تغرّدان في وادٍ، والسلطة الفلسطينية ما تزال تغرّد في وادٍ آخر، وتتغنى بحلم الزواج من ابنة الملك!.. أكثر من هذا، فإن السلطة ما تزال مصرّة ـ في مواجهة التعنت الإسرائيلي المدعوم أبوياً من واشنطن ـ على اللجوء إلى خيارات وبدائل أخرى ولكن.. "سلميّة".. يعني وببساطة ـ لكنها بساطة مخجلة ـ رفضاً واضحاً وقاطعاً وصريحاً وحاسماً للجوء إلى خيار المقاومة، أو حتى مجرد القبول به كورقة ضاغطة على طاولة المفاوضات، ومهما تكن الأسباب والمبررات والموجبات!.

حق العودة.. آلاف الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين.. جدار الفصل العنصري.. مئات الحواجز الأمنية والعسكرية "الإسرائيلية".. الاستيطان الذي لم يتوقف لحظة واحدة قبل ومع المفاوضات ـ المباشرة وغير المباشرة ـ والذي على الأرجح أنه لن يتوقف.. إعلان يهودية الدولة.. الإجهاز على ما تبقى من القدس وسكانها المقدسيين وبيوتهم وأملاكهم.. الموت العلني لسكان غزة "الفلسطينيين".. الإجهاز على المقاومة كبديل شرعي وحقوقي.. وغيرها وغيرها الكثير من المفاصل، كلها لم تعد تعني السلطة في شيء!.. إنما ما يعنيها فقط تحقيق "الانتصار" إما على جبهة تجميد مؤقت ـ وكاذب ـ للاستيطان ولمرة واحدة، أو على جبهة قبول "إسرائيل" العودة إلى المفاوضات حتى ولو كان بعيداً عن طرح أو مناقشة أيّ من تلك المفاصل، وإلا.. فالبحث مستمر ومتواصل وبلا توقف عن بدائل أخرى و.. ليطمئن الملك وابنته، لأنها ـ أي البدائل ـ كلها "سلميّة"!!.