الكاتب : نظير مجلي

«الجولان لنا وليس لهم»، هذه الجملة بنفس الكلمات وترتيب الحروف، يقولها العرب السوريون والمستوطنون اليهود في المرتفعات السورية التي احتلتها إسرائيل عام 1967. العرب واليهود من الطرفين مختلفون في كل شيء، لكنهم متفقون على التفوه بتلك المقولة، وليس صدفة. فالعرب فيها سوريون، يعتزون بانتمائهم إلى موطنهم الأصلي، ويرون في الإسرائيليين غزاة مستعمرين. واليهود يرون في استيطانهم هناك «عودة إلى أرض الآباء والأجداد». وعندما قمنا بزيارتهم هذا الأسبوع، وجدنا هضبة الجولان ساحة لأحداث مثيرة وصراع ملتهب.. قد لا يظهر كل شيء فيه على السطح، لكن اللهيب يشتعل تحت تلابيبها على نار هادئة جدا.

«لا تنس، إن الجولان منطقة طبوغرافية تعتبر أرض بركان نائم، لا أحد يعرف متى ينفجر»، يقول لنا شيخ جولاني عاصر الاحتلال الفرنسي والسيادة السورية ويعيش صابرا تحت الاحتلال الإسرائيلي اليوم. ورغم أنه تجاوز الثمانين من العمر، فقد كان عائدا من العمل في فلاحة الأرض، ويقف على طرف الشارع ينتظر مسافرا عابرا يحمله إلى بلدته مسعدة، فاهتم بمعرفة أصلي وفصلي، قبل أن يخبرني بأنه في كل يوم يسافر «ترمب»، وعندما عرف ما غرضنا هز كتفيه بشيء من الاستخفاف، وقال «إسرائيل مش أشطر من العثمانيين ولا الفرنسيين»، وقصد أن كل احتلال إلى زوال.

توجهنا إلى الجولان صاعدين من الجنوب إلى الشمال، مخلفين وراءنا بحيرة طبرية الشهيرة، متسلقين سلسلة الهضاب المرتفعة، التي جعلتها المتغيرات الطبوغرافية غورا فسيحا جدا ومليئا بالتناقضات:
 أرض سهلية خصبة، ماء وفير وخضرة يانعة، لكن التفاعلات البركانية على مدى ملايين السنين في هذا المكان تدمغ كل حجارتها باللون الأسود «المشحّر».

 هواء نقي نسيمه عليل، وشاحنات تشحن ليل نهار أرتال دبابات الـ«مركباه»، آخر صرعة من أسلحة المدرعات الإسرائيلية الفتاكة.

 قطعان كبيرة وكثيرة من الماشية والأبقار تغمر أرض الجولان بطولها وعرضها، وفي الليالي تخرج إلى الشوارع الخنازير البرية والثعالب، وفي الوقت نفسه تشاهد كميات كبيرة من جنود الاحتلال المنتشرين في كل زاوية، مدججين بأسلحتهم ومتنقلين بمجنزراتهم ومصفحاتهم وسياراتهم العسكرية.

 ألوف البيوت العربية المهدمة، ذات الحجارة الكئيبة، المستظلة بأشجار يتيمة صفراء.. مقابل عشرات المستوطنات اليهودية الحديثة ذات المباني البيضاء المستظلة بالأشجار الخضراء وارفة الظلال.

 أعلام إسرائيل فوق المستوطنات والسيارات العسكرية مقابل الأعلام السورية المرفرفة فوق البيوت في القرى العربية، والتي فشلت إسرائيل في إنزالها رغم تعسفها المتواصل طيلة ثلاث وأربعين سنة ونيف. لكن في قرية الغجر، التي وافق سكانها على الحصول على الجنسية الإسرائيلية، وجدنا بيتا يرتفع فوقه العلمان، الإسرائيلي والسوري، متعانقين.

 عرب أصليون وأصيلون يعيشون في خمس قرى سورية، وبالمقابل مستوطنون يعيشون في 33 مستوطنة. ويمثل التناقض هنا حتى بين المستوطنين اليهود، حيث وجدنا بينهم «مستوطنين عربا»، أجل عربا، من المواطنين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية ويعرفون باسم «فلسطينيي 48»، يعيشون جنبا إلى جنب مع المستوطنين اليهود في إحدى هذه المستوطنات.

 سياح أجانب ومستجمون إسرائيليون وفلسطينيون وسوريون، وحرارة شمس حارقة في نهار الخريف المتقلب، وبرد قارس في ليله الداكن.

وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا الحشد من التناقضات يجعل الجولان شيئا مهما. وخلال أربعة أيام بلياليها، أمضيناها بصحبة المواطنين السوريين في الجولان والمستوطنين اليهود أيضا، وجدناها منطقة بركانية، ليس فقط في الجغرافيا وعلم طبقات الأرض، بل بركانية أيضا في السياسة وفي الرواية التاريخية وفي الحاضر والغائب أيضا. وعلى الرغم من الهدوء السائد في بلداتها العربية ومستوطناتها اليهودية، لا يغيب عن آفاق الناس هنا أن خطر اندلاع الحرب يخيم فوق الرؤوس. فالجميع يعرف هنا أن المنطقة كانت ميدانا لحروب شتى على مدى التاريخ، اثنتان منها وقعتا في وقت قريب: عامي 1967 و1973. ومن عاش ذكريات هاتين الحربين لا يريد للحرب أن تنشب من جديد. فالإسرائيليون يملكون أعتى أنواع الأسلحة الفتاكة والسوريون أيضا. وأرشيف الجيش الإسرائيلي وكتب التاريخ الحربية الصادرة في إسرائيل تعترف للجندي السوري بقدرات قتال عالية، لا تقل بشيء - إن لم تزد - عن قدرات الجندي الإسرائيلي.

ولما جاءت جولتنا في الجولان، في وقت كان فيه الكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، قد أقر قانون الاستفتاء الشعبي (الذي يلزم أي حكومة تنوي الانسحاب من الجولان - والقدس الشرقية - بأن تتخذ قرارا بأكثرية 80 من مجموع 120 نائبا، أو بأكثرية الشعب في استفتاء شعبي)، فقد عبر من قابلناهم عن آرائهم في هذا القانون. كثيرون منهم لم يسمعوا بالقانون، وآخرون سألونا عن نتائج التصويت عليه. ومن تابعوا الموضوع أدلوا بآراء معروفة سلفا. فالمستوطنون اليهود هناك أيدوه، والمواطنون العرب السوريون اعتبروه سدا يقضي على الآمال الضعيفة أصلا في السلام.

وكانت تلك باختصار جولة مثيرة، واكبنا خلالها الجولان المنسي بتاريخه العريق وحاضره الأليم ومستقبله المحاط بتساؤلات كثيرة. فما هو هذا الجولان؟ وما هي قصته؟ هل هو منطقة استراتيجية فعلا، لذلك تتمسك بها إسرائيل؟ ما الذي أدى إلى تكوينه على شكله الحالي؟ هل هي التغيرات الجغرافية وحسب، أم أنها السياسة التي جعلته أرضا أخرى تحتلها إسرائيل؟ ولماذا احتلته إسرائيل أصلا، بينما كان الكثير من قادتها يمتنعون عن احتلاله، وحسموا الأمر فقط بعد ثلاثة أيام من حرب الأيام الستة؟ وكيف كان ممكنا أن يحتل وهو تلك المناطق المرتفعة التي سيطر عليها الجيش السوري بقوات كبيرة، وكانت فيه القوات الإسرائيلية تحت فوهات المدافع السورية في السهول الممتدة تحت الهضاب؟ وما الذي جرى للجولان منذ احتلاله؟ ولماذا لم تنجح المشاريع الإسرائيلية لاستيطانه؟ لماذا لم يزد عدد المستوطنين اليهود فيه على عشر عدد المستوطنين في الضفة الغربية؟ وكيف صمد من تبقى من أهله السوريين رافضين كل المغريات الإسرائيلية؟ وما الذي ينتظر هذه المنطقة مستقبلا؟

شيء من التاريخ والجغرافيا

* الجولان، وجذر الكلمة يعني بالعربية «جوال»، هو عبارة عن مجموعة هضاب تقع في بلاد الشام، ما بين نهر اليرموك من الجنوب وجبل الشيخ من الشمال. من الغرب تطل على بحيرة طبرية ومرج الحولة في الجليل، ومن الشرق تطل على سهول حوران والريف الدمشقي، تلامسها ضفاف وادي الرقاد القادم من الشمال بالقرب من طرنجة، باتجاه الجنوب حتى مصبه في نهر اليرموك. وأما من جهة الشمال فيشكل مجرى وادي سعار - عند سفوح جبل الشيخ - الحدود الشمالية للجولان، حيث تمتد بين منابع نهر الأردن وشلالات بانياس، وحتى أعالي وادي الرقاد في الشرق. وأما حدودها الجنوبية فيشكلها المجرى المتعرج لنهر اليرموك والفاصل بين هضبة الجولان وهضبة عجلون في الأردن.

تبعد هضبة الجولان 50 كم إلى الغرب من مدينة دمشق. وتقدر المساحة الإجمالية لها بـ1860 كيلومترا مربعا، وتمتد على مسافة 74 كم من الشمال إلى الجنوب من دون أن يتجاوز أقصى عرض لها 27 كم.

على مدى التاريخ سيطرت على المنطقة حضارات متعددة. مع نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد سيطر عليها العموريون أو العماليق، الذين وصلوا في تلك الفترة إلى أواسط بلاد الرافدين وسورية على شكل موجات كبيرة من شبه الجزيرة العربية، واستمرت سيطرتهم حتى ظهور الآراميين، الذين قدموا كما يعتقد من جنوب الجزيرة العربية ليؤسسوا مجموعات زراعية مستقرة ودولا وأسرا حاكمة في سورية. في العهد القديم يذكر اسم جولان في سفر التثنية، وفي سفر يوشع، كإحدى مدن الملجأ الثلاث الواقعة عبر نهر الأردن، والتي يلجأ إليها من قتل إنسانا سهوا وخشي من الانتقام (التثنية 4:43، يوشع 20:8). وتذكر مدينة جولان كمدينة واقعة في منطقة باشان ضمن الأراضي التابعة لسبط منشيه.

كان الجولان تابعا لسورية الكبرى، كجزء من ولاية الجليل حتى عام 1923، حينما رسمت الحدود الدولية استنادا إلى اتفاقية «سايكس بيكو» بين بريطانيا وفرنسا اللتين احتلتا بلاد الشام من الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. وبعد تأسيس سلطة الانتداب الفرنسي على بلاد الشام، قررت فرنسا تقسيم منطقة الانتداب إلى وحدتين سياسيتين - سورية ولبنان - وحددت الجبال الواقعة شمال الجولان (جبل روس، جبل الشيخ، وغيرهما) حدودا بين البلدين. لكن السلطات الفرنسية لم ترسم الحدود بين سورية ولبنان بدقة لاعتبارها حدودا داخلية، مما أثار الخلافات عندما استقلت كل منهما عن فرنسا. وبرزت آثار هذه الاختلافات في منطقة مزارع شبعا وقرية الغجر عند رسم الحدود الأخيرة (الخط الأزرق) قبل خمس سنوات.

عندما قامت إسرائيل في سنة 1948، تحول الجولان إلى منطقة سورية حدودية معها. وأقام الجيش السوري فيه عدة قواعد واستحكامات. واقتحم الأراضي التي كانت إسرائيل قد احتلتها وهي المخصصة للدولة الفلسطينية (حسب قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1949)، وحرر قسما منها في منطقة الحمة في الجنوب الغربي للجولان وعلى ضفاف بحيرة طبرية وفي مناطق أخرى. هذه العمليات، أنشأت خطا حدوديا جديدا هو خط الرابع من يونيو (حزيران) ويقصد به ما قبل عام 1967. وهو الخط الذي بسببه فشلت المفاوضات السلمية بين إسرائيل وسورية ثلاث مرات، الأولى في زمن حكومة إسحق رابين الثانية (1992 - 1995)، والثانية في زمن حكومة بنيامين نتنياهو الأولى (1996 - 1999)، والثالثة في زمن حكومة إيهود باراك (1999 - 2001). فقد طالبت سورية بأن تنسحب إسرائيل إلى هذا الخط، وردت إسرائيل بأنها مستعدة للانسحاب إلى خط الحدود الدولية (الذي تقرر سنة 1923)، لكي تضمن بقاء الحمة وكل بحيرة طبرية وحتى بانياس في تخومها.

فضيحة الاحتلال

*احتلال هضبة الجولان السوري كان عبارة عن فضيحة سياسية وأمنية كبرى، لو جرت وقائعها اليوم لكانت الحكومة الإسرائيلية قد أرغمت على إقامة لجنة تحقيق رسمية، ولكان وزير الدفاع، موشيه ديان آنذاك، أقيل من منصبه ومعه ثلة من القادة الآخرين.

فقط قبل أربع سنوات شهدت إسرائيل وضعا شبيها، فأقيمت لجنة تحقيق في حرب لبنان الثانية (لجنة فينوغراد)، وخرجت بالاستنتاج أن الجيش جر الحكومة إلى حرب غير مدروسة استراتيجيا. وانتهت إلى الإطاحة بوزير الدفاع (عمير بيرتس) ورئيس أركان الجيش (دان حالوتس) وعدد آخر من قادة تلك الحرب، وفي نهاية المطاف وجد رئيس الوزراء، إيهود أولمرت، طريقه إلى الاستقالة. فما بالكم في حرب امتنعت الحكومة عن إقرارها، وطلبت من الجيش إعطاءه تصورا لها خلال يومين، لكن وزير الدفاع قرر الخروج إلى الحرب في اليوم التالي من دون علم رئيس الحكومة؟

قصة احتلال الجولان

* طيلة السنوات منذ قيام إسرائيل وحتى حرب الأيام الستة عام 1967، شهدت منطقة الجولان مناوشات حدودية كثيرة. سورية من جهتها أرسلت إلى الجولان حشودا ضخمة للسكان وللجنود. وشجعت الحكومات السورية مواطنيها، خصوصا العسكريين منهم، على القدوم للسكنى فيه. وأقامت عددا كبيرا من المعسكرات، وبنت استحكامات قوية على طول الحدود مع إسرائيل، وكذلك في عمق الجولان. ونشبت معارك ومناوشات بين الجيشين الإسرائيلي والسوري، أقدم السوريون خلالها على قصف البلدات اليهودية في سهل الحولة والجليل، وأقدمت إسرائيل على قصف مدفعي مكثف وغارات جوية.

وحسب مصادر إسرائيلية عسكرية، قتل 140 إسرائيليا وجرح مئات آخرون بسبب القصف السوري على إسرائيل، في الفترة ما قبل الحرب. لكن هذا لم يؤد إلى قرار إسرائيلي بإعلان الحرب على سورية. فقد خشوا من أن تؤدي حرب كهذه إلى تدهور شامل في المنطقة. وحتى عندما شنت إسرائيل هجومها على مصر ثم على الأردن، في الأيام الثلاثة الأولى من حرب 1967، امتنعت عن التحرش بالجيش السوري. والجيش السوري من جهته، اكتفى بقصف إسرائيل بشكل محدود، مدفعيا وبالغارات الجوية. لكنه امتنع عن استخدام سلاحي المدرعات والمشاة. وقد ترك الإسرائيليون الجولان بلا حرب طيلة الأيام الثلاثة. لكن، عندما رأت إسرائيل أنها تحقق انتصارا لم تحلم به على مصر، ثم تحتل القدس وسائر الضفة الغربية وقطاع غزة، انفجرت نقاشات حادة داخل الحكومة الإسرائيلية وقيادة الجيش. وتم تجنيد رؤساء المجالس المحلية والبلدية في الشمال لصالح الحرب، فتوجهوا إلى رئيس حكومتهم آنذاك، ليفي أشكول، يطالبونه بشن الحرب على سورية واحتلال الجولان على الأقل، ليمنعوا القصف المدفعي على بلداتهم.

القوى التي دفعت باتجاه الحرب في القيادة الإسرائيلية رأت في سورية خطرا استراتيجيا كبيرا. وحسب المؤرخ العسكري بنيامين زئيف فاكسلر، فإن رئيس أركان الجيش، إسحق رابين، كان في مقدمة الداعين لانتهاز فرصة هزيمة مصر والأردن، لتوجيه الضربة إلى سورية. وكان معه نائب رئيس الوزراء، يغئال ألون، الذي حاول إقناع الحكومة برأيه قائلا «إذا خضنا الحرب، سنحتل هضبة الجولان ونوقف عمليات قصف قرانا وبلداتنا، وسنضع حدا لمحاولات سورية حرف مياه اليرموك عن مسارها نحو بحيرة طبرية، ونحكم السيطرة على مصادر المياه. والضرر الوحيد الذي سيلحق بنا هو على الصعيد السياسي لا أكثر، حيث إنه في أسوأ الأحوال سوف يقطع الاتحاد السوفياتي علاقاته معنا. ومع أنني لا أعتقد أن الروس سيقدمون على خطوة كهذه، فإنني أرى أن الجولان بيدنا من دون الاتحاد السوفياتي أفضل لنا من أن يكون السوفيات معنا من دون الجولان».

وكان وزير الدفاع آنذاك، موشيه ديان، هو المعارض الرئيس ومعه رئيس الوزراء أشكول. فتقرر أن يعرض رئيس أركان الجيش خطة للحرب مع سورية خلال يومين أو ثلاثة. لكن الوزير ديان غير رأيه فجأة، عندما رأى مدى عمق الهزيمة المصرية والأردنية، وعندما وافقت مصر على اتفاق لوقف النار. فأخذ على عاتقه شن الحرب على سورية، من دون الرجوع إلى الحكومة أو رئيسها. ويكتب المؤرخ توم سيجيف في كتاب خاص ألفه وأصدره مؤخرا بعنوان «1967»، فيقول إن ديان أقدم على عمل لا يناسب أبدا النظام الديمقراطي. ويؤكد أنه لولا انتهاء الحرب بالانتصار لكان رد الفعل الإسرائيلي عليها بمثابة زلزال. ويقول إن الحظ فقط هو الذي خدم قادة إسرائيل في ذلك الوقت، فلم يكتشف المواطنون أن هؤلاء القادة أغبياء ومتغطرسون ومغامرون خطيرون وبلطجيون، جعلوا من إسرائيل دولة احتلال بشعة، تمارس أبشع أساليب الكولونيالية الاستعمارية الكلاسيكية في عصر يتخلص فيه البشر من الاحتلال.

لكن سيجيف لا يقصر توصيفه للحرب على هذا الجانب، فيذكر بالتفصيل الخلفية اليهودية لقصة هذه الحرب وما حصل بعدها. فهو يشير إلى أن الإسرائيليين وعددا كبيرا من القادة، كانوا قبل الحرب يعيشون حالة خوف وقلق شديدين. فالخطاب الحربي العربي ضد إسرائيل واليهود أعاد إلى أذهان الإسرائيليين مشاعر الخوف التي سادت بين اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، عندما راحت النازية تعلن وتمارس عملية إبادة لليهود. وعندما قرر الرئيس المصري جمال عبد الناصر إغلاق مضايق تيران، وهو الأمر الذي يعني حصار إسرائيل بحريا من البحر الأحمر، ثم عندما أمر عبد الناصر قوات الطوارئ الدولية بعد مغادرة ثكناتها العسكرية في سيناء، تضاعف الخوف. وهو يكشف في كتابه عن عدة شخصيات تحدثت عن هذا الخوف، بينهم رئيس الوزراء، ليفي أشكول، الذي عارض الحرب بشدة لكن الجنرالات من حوله لم يتيحوا له فرض إرادته، ووزير الزراعة، حايم جباتس، الذي كتب قائلا «نحن مشبعون بالخوف». ورئيس أركان الجيش، إسحق رابين، الذي أصيب بانهيار عصبي في الساعات الأولى من الحرب.

بيد أن هذا الخوف تحول إلى غرور وغطرسة بعد الحرب، كما اعترف موشيه ديان في آخر حياته. ويقول ديان، كما يشهد توم سيجيف، «نحن غريبون. ننجر وراء خوف الناس بشكل جارف، ثم نصاب بسكرة الانتصار». وقد وصف ديان بذلك حالة الإسرائيليين بدقة من خلال تجربة شخصية. فهو نفسه كان خائفا من الحرب. ولما انتصر، أصيب بسكرة. فأمر بالحرب على سورية. وعلى الرغم من تحقيقه الانتصار في سنة 1967، فإن العقلاء في إسرائيل، وتوم سيجيف أحدهم، يقولون إن هذا الانتصار كان كارثيا بالنسبة لإسرائيل. وعرف عن الفيلسوف اليهودي الإسرائيلي، يوشع لايبوفيتش، قوله إن إسرائيل ستبكي أجيالا بسبب هذا الانتصار، لأنه سيفسد المجتمع الإسرائيلي. وكان الشاعر الفلسطيني توفيق زياد قد كتب عن هذا الانتصار في إحدى قصائده، يقول «لا تقولوا لي انتصرنا، إن هذا النصر شر من هزيمة».

المفاوضات عالقة منذ «إسطنبول»

* مسار المفاوضات بين إسرائيل وسورية عالق، على الرغم من المحاولات الكثيرة لتفعيله. وقد كانت آخر جولات التفاوض في إسطنبول، حيث جلس المندوبون السوريون في غرفة في فندق والمفاوضون الإسرائيليون في غرفة أخرى مجاورة، والمندوب التركي يتنقل بينهما.

وفي شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2008 شهدت هذه المفاوضات تطورا مهما، حينما وصل رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود أولمرت، بشكل مفاجئ إلى أنقرة. والتقى نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، وخلال اللقاء تكلم أردوغان مع الرئيس السوري بشار الأسد هاتفيا، وراح ينقل الكلام بينه وبين أولمرت، وعرض الأسد صيغة للتسوية، فطلب أولمرت أن يعود إلى إسرائيل للتشاور، ولكنه لم يعد. وبدلا من ذلك، شن الحرب على قطاع غزة، فتدهورت العلاقات التركية - الإسرائيلية وانقطعت المفاوضات بين إسرائيل وسورية.

ومنذ ذلك الحين، طرحت عدة محاولات لاستئنافها. فقط في الأسبوع الماضي، أعلنت فرنسا، خلال زيارة الرئيس الأسد إلى باريس عن استعدادها لإيواء هذه المفاوضات، ولكن الفرنسيين كانوا قد أعلنوا مثل هذا الإعلان عدة مرات، وفي شهر سبتمبر (أيلول) الأخير عينوا وسيطا فرنسيا خاصا هو الممثل الشخصي للرئيس نيكولا ساركوزي، لهذه المفاوضات. ولم يحصل فيها أي تقدم. وفي الشهر نفسه، كانت وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، قد أعلنت خلال استقبالها وزير الخارجية الأردني، عزم بلادها على إشراك سورية في عملية السلام.

وقبل ذلك كانت قد دارت مفاوضات إسرائيلية - سورية، بعضها مباشر (واي بلانتيشن سنة 1996)، وبعضها غير مباشر (بوساطة رسمية أميركية وبوساطة أشخاص منذ مؤتمر مدريد سنة 1991 وحتى سنة 2008)، ولكنها لم تنجح، مع العلم بأن هذه المفاوضات كادت تصل إلى نتيجة عدة مرات ولكنها علقت في الجمود من جديد في كل مرة.

ويعتبر أهم حدث في هذه المفاوضات، ما يعرف بـ«وديعة رابين»، في سنة 1993، حيث أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحق رابين، وزير الخارجية الأميركي، وارن كريستوفر، تعهدا بالموافقة على الانسحاب الكامل من الأراضي السورية التي احتلت عام 1967 مقابل السلام الكامل. وقد بدأت مفاوضات غير مباشرة حول الموضوع، لكن رابين قتل في عام 1995، مما عرقل المفاوضات. وأصبحت هذه العهدة أساسا لأي مفاوضات بين البلدين لاحقا.

المصدر : الشرق الاوسط