علينا الابتعاد قليلا عن مسار الحدث، فتفجير الإسكندرية ربما يظهر في سياق سيناريو سبقته مؤشرات عديدة حول مسألة الأقباط، لكن الأمر لا يتعلق فقط مصر بل بمجمل شرقي المتوسط حيث تتعدد الرموز وتبدو الجغرافية مثقلة بتاريخ إنساني، في وقت يضعنا السياق التاريخي أمام حالة لا يمكن تجاهلها في مسألة العلاقة مع مساحة "مقدسة" إن صح التعبير، فالمشكلة وإن بدت "محلية" أحيانا سواء في العراق أو مصر لكنها تعيد الأسئلة الأساسية حول المجال "الجيوثقافي" لمنطقة الشرق الأوسط عموما.

وبالطبع فإن سير الحدث السياسي يمكن أن يعيد الجدل حول "إفراغ" المنطقة من بعض عناصرها، وهو أمر لا يمكن تجاهله، إلا أنه يبدو على الأقل في ظل بقاء الرموز المتعدد مستحيلا، فعمليات التحول الديمغرافي واردة لكنها في نفس الوقت ليست نهائية طالما أن الشرق الأوسط يشكل نقطة الانطلاق في مسألة "الرمز الديني"، فهل علينا البحث أبعد من الحدث؟

عمليا فإن المشكلة الأساسية هو أن الحرص على مسألة التنوع لا يملك صورة نهائية أو واضحة داخل الثقافة العربية عموما، رغم أن بداية القرن العشرين شهدت بحثا مكثفا في هذا الموضوع وعلى الأخص في سورية، بينما انتظرت مصر حتى عام 1919 حتى تتبلور الرؤية لدولة مصرية تضم "تنوعا دينيا"، ويبدو الابتعاد عن الدخول إلى عمق هذا التنوع إلى توقفه عن "سطح" الواقع في محاولة لتأكيد ما يطلق عليه "التعايش" أو "التسامح"، بينما يبدو الجانب الذي يتم تجاهله أو عدم التعرض له هو المجال "الجيوثقافي" الذي يملك أبعاد نحو قلب أوروبا تماما كما يملك امتدادا اتجاه باكستان أو حتى وسط أسيا، فهناك ما يمكن أن يطلق عليه "دائرة استقطاب" يمكنها في أي لحظة الانطلاق اتجاهات أربع لتثير اهتمام العالم أو تجعله ينظر من جديد إلى المراكز التاريخية القديمة بكل ما تحمله من "رموز" متعددة.

"دائرة الاستقطاب" هذه وإن اتخذت ملامح جديدة في التاريخ الحديث والمعاصر، إلا أنها بقيت فاعلة وشكلت دافعا للتحرك أكثر من مرة للتدخل المباشر في الشرق الأوسط، بينما اتجهت التفسيرات المنطلقة من الشرق الأوسط استقراء عوامل قوة لا تتعامل مع هذه الدائرة، فالرموز الدينية موجودة أساسا في منطقة "سيادة الدولة" لكنها في نفس الوقت تشكل عامل قوة حين قراءة تأثيراتها "الجيوثقافية"، بينما تصبح في إطار القلق والحث عن حقوق الأقليات في لحظة التوقف عند حدود التفسيرات السطحية أو البحث فقط عما يسمى التعايش.

المجال الجيوثقافي تعاملت معه الولايات المتحدة جيدا في بداية المسألة الأفغانية فوصل التأثير السعودي والمصري باتجاه الشرق، لكننا نملك أيضا نفس هذا المجال باتجاه الغرب لكنه على ما يبدو متروك نتيجة "الرهاب" من الآخر أو حتى عدم القدرة على تحديد هوية قادرة على تجسيد عملية التفاعل الاجتماعي، وربما تشكل تجربة مسيحيّ المشرق مع باقي رجالات النهضة في بداية القرن الماضي المثال الأكثر وضوحا عندما تم تأسيس الفكر القومي لإيجاد مخرج من أزمة الدولة العثمانية، والتصريحات السياسية التي تأتي اليوم من اتجاهات مختلفة نتيجة حادثة الإسكندرية ربما تكون دافعا جديدا لكل دول المنطقة لإعادة قراءة هذا المجال "الجيوثقافي".