الكاتب : مازن بلال

هناك رهانين يظهران في الحدث السوري منذ الاستقلال وحتى اللحظة، وهو ما جعل كلمة "مؤامرة" الأكثر تكرارا في الخطاب السوري القديم والحديث، فمسألة تشابك المصالح الدولية والإقليمية هو الذي يجعل خلاصة الرهانين في مصطلح "المؤامرة" الراسخ على ما يبدو في الأدبيات السورية، وبالطبع فمن العبث مناقشة مدى صحة أو خطأ هذا الأمر، لأن القضية الواضحة هي في التشابك الحاصل داخل الجغرافية السورية ما بين الرهان الإقليمي والدولي، وما بين قدرة الحراك الداخلي على رسم دور له سواء في السياسة الخارجية أو في مسائل الديمقراطية التي غدت قضية مستقلة على ما يبدو منذ أواسط التسعينيات أي بعد موجة الديمقراطية في شرقي أوروبا وانهيار الاتحاد السوفياتي.

في الأزمة السورية الحالية تتلخص كل الرهانات دفعة واحدة، وتبدو وكأنها خليطا ما بين الرغبة الداخلية في تحقيق هوامش واسعة في مسألة الحريات السياسية، وبين الوجه الخاص بالشرق الأوسط وما تمثله سورية داخل هذه الخارطة المتعبة والبنية أساسا على "توليد الأزمات" إن صح التعبير، ومن اليوم الأول للاحتجاجات السورية كان هناك ترقب دولي نتيجة المعرفة المسبقة بالدعوات على الإنترنيت، وبالتأكيد لا تملك شبكات التواصل الاجتماعي قدرة الساحر على التحريك، لكنها تلخص "آلية" فعالة ومعاصرة في هذا الموضوع، فالمناخ الإقليمي كان يحمل قدرة على إثارة الاحتجاجات، والبيئة الدولية إن لم تكن مربكة فهي كانت موجودة ضمن أبواب مغلقة يصعب معها التحرك أو القفز داخل كافة الأزمات الشرق أوسطية.

عمليا فإن الاحتجاجات في سورية مهما حاولنا فصلها عن المساحات التي تحيطها، فإن الأمر سيبدو مستحيلا، على الأقل في موضوع "المتابعة الإعلامية"، فالمسألة متعلقة بثلاث عوامل أساسية:

الأول هو ان التغيير في سورية مهما كان نوعه لا بد أن يحمل ارتجاجا في العلاقة داخل الشرق الأوسط وعلى الأقل فيما يخص الموضوع الإيراني، ونحن لاحظنا أن هذا الرهان ظهر مبكرا من خلال تصريحات شهود العيان وإقحام حزب الله بما يحدث، وتطو لاحقا عبر مواقف أمريكية معلنة في دعم إيراني لقمع الاحتجاجات، بالطبع ليست وظيفتنا بحث منطقية هذا الأمر، بل الإشارة فقط إلى نوعية الرهان الذي تطور فور الحديث عن احتجاجات.

الثاني التغيير في سورية يحمل معه كسر عملية الفرز الإقليمي والعربي على وجه الخصوص، فرغم عملية المصالحة بعد قمة الكويت الاقتصادية، فإن المسار العربي استمر على نفس السياق والجبهات بقيت كما هي، وإذا كانت حرب غزة ثم تبدل الإدارة الأمريكية عاملين في مسألة المصالحة، فإن غزة استمرت محاصر والإدارة الأمريكية الجديدة لم تستطع فك عقد الأزمات في المنطقة، وعمليا فإن أي تحول سوري سيحمل معه شكلا مختلفا للمنطقة العربية المحيطة بـ"إسرائيل" على الأقل، بالتأكيد ليس بالضرورة أن يحدث التغيير مصالحة أو تسوية أو السلام مع "إسرائيل"، لكن المعادلة في المنطقة ستتبدل تحت سقف احتمالات مفتوح، وهو ما جعل "الخط العربي" باتجاه ما يحدث في سورية مفتوحا أيضا ومتداخلا مع أي خطاب سياسي داخلي.

الثالث غياب التصور المسبق لما يمكن أن تحدثه التحولات في سورية، فنحن نتحدث ليس فقط عن "أربعين عاما" من توجه سياسي واحد، بل أيضا عن تاريخ سوري منذ الاستقلال كان فيه التوازن الداخلي السوري عاملا حاسما في تحديد وجه المنطقة، فنجاح الأحزاب التقدمية في الخمسينيات هو الذي قاد إلى الوحدة مع مصر، واستلام البعث في الستينيات أثر حتى على طبيعة الحكم في العراق وعلى العلاقة بينها وبين سورية لاحقا، وحتى على مسار الحدث اللبناني. فالمسألة هنا هو ان التصور القادم لأي تغيير يمكن أيضا أن يسبح على محيط من التأثير على الخارج.

هذه العوامل لم تنطلق مع الاحتجاجات، فهي تلخص بمصطلحات متعددة من جميع الأطراف، فمن "المؤامرة" إلى الاستبداد إلى اتهام السلطة بانها تراهن على مواقفها الخارجية، لكن الأمر أعقد بكثير، ومن الصعب اعتبار التحول السوري يمكن أن يمر بشكل اعتيادي كما يحدث في مصر رغم التحول الاستراتيجي الذي يمكن أن تحدثه مصر بعد أن تشكل توجهاتها العامة (حتى الآن لم يتبلور هذا الموضوع)، لكن في سورية الوضع وفق استقراء التاريخ المعاصر يحمل دائما تحولات جذرية وسريعة في آن.

اختلاط العوامل السابقة مع حركة الاحتجاجات ربما كانت العامل الحاسم في نوعية التطورات الحادثة اليوم، فنحن لسنا شعب "مُخترق" لكنه على ما يبدو متشابك مع كافة أزمات المنطقة ومصالحها....