اتجاه الولايات المتحدة لإغلاق سفارتها في دمشق يقدم توجها دبلوماسيا نحو رؤية الحدث داخل سورية، فمسألة تأمين حمايتها أو الحديث عن عدم قدرة النظام على السيطرة هي مقدمات فقط، بينما تبدو الأمور أكثر تعقيدا من المسائل الأمنية على أهميتها، فالسفارة ومعظم الأبنية الأمريكية موجودة في دمشق ضمن مكان "أمني" بامتياز إن صح التعبير.

لكن واشنطن التي دعت مرارا الرئيس السوري للتنحي، واعتبر نيابة عن الشعب السوري أنه فقد شرعيته هي أمام خيارات سياسية قاسية نتيجة انغلاق الأفق السياسي داخل الأزمة السورية، ورغم أن الصراع داخل مجلس الأمن مازال دائرا حول صدور قرار ضد دمشق، لكن واشنطن مقارنة بباريس تبدو أقل حضورا على الأخص لجهة المعارضين السوريين الموجودين داخلها، إلا ان هذا الأمر لا يعني عدم وجودها بقوة داخل أي خيار فرنسي أو حتى أوروبي موجه ضد سورية، لكن مسألة "إغلاق السفارة" يحمل معه أمرين أثنين:

الأول رفع مسألة المواجهة ضد سورية باتجاه جديد، وربما يأتي هذا الإجراء كمؤشر في الصراع داخل الأمم المتحدة مع روسيا تحديدا ومعها الصين نتيجة عملية الإغلاق التي ظهرت منذ استخدام الدولتين للفيتو المزدوج، فالتصعيد الحالي هو رفع للأزمة إلى الذروة في مقابل تصعيد آخر تقوده موسكو تجاه أي عقوبات يمكن أن تطال سورية عبر مجلس الأمن.
عمليا فإن المسألة على الصعيد الدولي تتخذ شكلا عنيفا يؤثر مباشرة على الداخل السوري، فالولايات المتحدة وأوروبا أيضا تدركان أن الزخم الدبلوماسي مع طرف ضد طرف آخر يمدد الأزمة وبالتالي يتيح مساحات مناورة جديدة لكسب المعارك على الأرض، وربما لدعم الأطراف الإقليمية المتورطة مباشرة في الصراع داخل سورية، وبمجرد التلويح بإغلاق السفارة يؤثر على "حراك" المعارضة المسلحة، التي على ما يبدو تملك اليوم شرعية خاصة من بعض الأطراف الدولي وعلى الأخص باريس التي تتواجد فيها تمثيل ولو شكلي للمعارضة المسلحة.

الثاني: تدرك الولايات المتحدة أن الصعوبات الاقتصادية السورية لا يمكن أن تستمر بمجرد فرض العقوبات، بل بإدخال الاقتصاد السوري ضمن أجواء المعركة الدبلوماسية، وهي تعرف أيضا أن مسألة إغلاق السفارة سيؤثر مباشرة على حركة رؤوس الأموال داخل سورية أو حتى على العملية الإنتاجية داخليا.
المعركة الاقتصادية أيضا فيما لو تم إلحاقها بالصراع الدبلوماسي القائم سيخلق صعوبات على مستوى العلاقات الاقتصادية لسورية مع "الشرق" الذي تراه دمشق منفذا لها في ظل العقوبات التي تتراكم يوما بعد يوم، وربما ليس غريبا أن يتم استخدام "الموضوع الأمني" لإغلاق السفارة لأنه سيزيد من التعقيدات بشأن أي علاقات تجارية حيث سترتفع تكلفتها بشكل سريع، فمادامت الولايات المتحدة "قلقة أمنيا" فإن الشركات الاقتصادية ستكون أكثر قلقا في أي تعامل قادم مع سورية بما فيها تلك الشركات الأقرب إلى سورية، ونعني هنا دول الجوار الجغرافي.

واشنطن ترمي أوراقها اليوم داخل سورية بشكل سريع، فهل يوحي هذا الأمر بأن الأزمة في ذروتها؟ الحدث السوري يوحي بأن فصوله مازالت طويلة، ولكن عملية الإرهاق الطويلة هي غاية اليوم لإتاحة مساحات إضافية أمام "الاضطراب العسكري" بالدرجة الأولى كي ينتشر في محيط المدن، وهو تكتيك تم استخدامه سابقا في العديد من دول أمريكا اللاتينية في سبعينيات القرن الماضي، مع فارق وحيد هو أن لا أحد في المحيط السوري يرغب في بقاء الأمور على حالها لأنها ستخلق مدا من الاضطرابات المتتالية، ومن هنا يأتي التسريع الأمريكي وحتى الأوروبي في دفع الأزمة لذروتها، فالتهديد بإغلاق السفارة أو الحديث عن "فقدان السيطرة" على الوضع هو ليس نهاية الأزمة بل ربما فصل من تسارع الحدث دوليا ومحليا.