تبدأ الرواية لكنها تحاكي العين، فنرسم لها مساحة داخل إرثنا نفس وتبقى، وربما تنتشر، ونصبح أسرى الرواية التي يصعب تصديقها لكنها تداعب "الغرائز" الدفينة، فكل قصة يتم تناقلها تكتب فصلا جديدا من "تاريخ الثرثرة" الذي نعيش عليها، ولا أعرف كيف اكتشف "دهاة الإعلام" عشقنا للثرثرة، أو قدرة "الحكايات" على خلق مزاجنا العام، ووضع غرائزنا على محك الواقع.

في سورية حالتين: الأولى صراع دولي، والأخرى حكايات يتم تناقلها، وبينهما ضاعت الأحلام والرغبات والقدرة على تشكيل الشعارات واقعا، ووسط الصور التي يتم تناقلها ينتهي كل شيء، فالمعارض يتمترس بالصور، والموالي يستند لخطوط حمر، وتستمر المعركة بلا بدايات أو نهاية، فهل الأزمة بالفعل قضية حريات أو استبداد؟ وهل هي رواية المؤامرة؟ وهل انتقلت بقدرة قادر إلى جعل أمير قطر رمزا لحالة اسثنائية تصيبنا بانهيار عصبي؟

لعبة العين كانت خارج ثقافتنا، فحتى الدراما السورية كانت تملك من السرد أكثر من قدرتها على خطف البصر، وكان التلفزيون في كل منزل نوعا من "الاستعاضة" عن نمط قديم براو جديد يملك قدرة التحرر من انماط مختلفة لكنه يبقى راو يتحدث ويتحدث ويتحدث... ثم ينتهي الأمر فجأة داخل عالم الاتصالات لنكتشف العالم عبر الفضائيات التي اجتاحتنا أواسط التسعينيات، فانتهى عهد الرواي القديم لصالح "خطف البصر"، ووضع الرواية من جديد بألوان من الصعب اختراقها، لكن التلفزيون في النهاية كان يملك طابع "الحيادية" في وجوده داخل منازلنا، ثم انتقل بسرعة لحركة التفاعل فأصبح البعض "متورط" في الرواية وفي رسم الألوان عليها.

عشية يوم الجمعة بلغت "الرواية البصرية" ذروة جديدة، فأصبحنا أمام مشهد مختلف، ودخلنا إلى حالة الفوضى والشك ورسم الواقع ابتداء من "طرفة عين"، وربما لم تكن نية القائمين على الإعلام منذ سنوات رسم مزاجنا، لأن القضية هي إقحامنا في مسائل تكسر أي هامش سياسي أو تعيد كتابتنا على مساحة من التفاعل الزائف، فالبصر يتم تحميله على قاعدة من الفراغ في الثقافة البصرية، والبصر أيضا يتم تغذيته بألوان وروايات ومعلومات ستذهب في النهاية إلى إشباع قناعات مسبقة وليس لتصنيف المعلومات أو ربما طرح الأسئلة.

لم يكن الإعلام مسؤولا عن الفراغ الذي نعيشه مهما كان نوعه، ولا عن ثقافة تهوى تكريس القناعات المسبقة، لكن القائمين على الإعلام اكتشفوا قاعدة الثرثرة الخاصة، أو تغذية المشاهد بالصور البديلة والثقافة البديلة، فتعرفنا من جديد على جانب أساسي: فنحن مجتمع مكشوف، ومواطنين ينتظرون من يرسم لهم بعض ما يريدون أو يضعهم في مواقع ربما لم تكن تخطر على بال، ويكفي هنا ظهور الدم وإشعال الغريز.

رغم "طرفة العين" في الإعلام لكن ما يحدث هو خارج التوقعات التي يحسبها البعض مجرد "انتصار" لفئة ضد أخرى، أو معارضة موالاة على سياق واحد، إنها صراع يحتاج لعقولنا أولا وأخيرا، ولتحييد مساحة الانفعال بعيدا ووضعها خارج إطار "الثأر" الذي على ما يبدو أصبح "قيمة" يتم القياس عليها في السياسة بدلا من اعتماد المصالح.

طرفة عين هي الرواية والأشرطة المسجلة، ومذيع الأخبار المتعالي على الجميع لأنه يملك الحقيقة، وشاهد العيان وعضو التنسيقيات أو المتحدث باسم حقوق الإنسان، وكل مراصد الحريات والمحللين هم في النهاية جزء من حالة بصرية لا تساعد على التفكير بوضوح والاتجاه نحو لملمة الجراح والخروج من الأزمة.