تريد موسكو إمساك زمام المبادرة، فالأزمة السورية لم تفتح ملفا داخليا فقط بل كسرت أيضا حاجز "المعقول" في رسم التوازنات القادمة، وربما يدرك الروس من خبرتهم ان هذه الجغرافية لا يمكن أن تصبح محايدة، فهي ومهما اختلفت المصالح أو تشابكت عليها الانحياز بطريقة أو بأخرى، أما مسألة خلق توازن داخلها يضمن لها إستراتيجية تشبه المواقف اللبناني على سبيل المثال، فهي أمر على الأقل في مقاربة سياسية معاصرة كان مستحيلا.

عمليا فإن التحرك الروسي يعرف نوعية المخاطر التي تواجهه اليوم، لكنه في المقابل يعي أن المعركة ليست إقليمية، وأن مدى النجاح في التعامل مع الملف السوري سيشكل إعادة للتوازن الدولي عبر ملفات أخرى، لأن الآليات الدولية اليوم يمكن أن تٌرسم من جديد على ضوء المأزق الذي وقع فيه مجلس الأمن قبل يومين، وهو ما حذر منه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف معتبرا أن الأمر يمكن أن يصل إلى "فضيحة"، وبالفعل فإن الصورة الدولية وصلت إلى إطار نهائي، والمنظومات الدولية يمكن ان تتصارع في أي لحظة.

وسط هذا التشابك فإن موسكو تتحرك دون رغبة في تفكيك التحالفات القائمة، فالمواجهة الدبلوماسية لها كانت حسب ما شرح مندوبها الدائم متعلقة بنص القرار المعروض على مجلس الأمن في سورية، وهي لم تتطرق للأدوار الإقليمية بقدر مجابهتها للدور الأمريكي والأوروبي الذي تجلى في بنود المشروع، فالمجابهة هي في النهاية على طريقة إدارة الأزمات أكثر من كونها عملية فرز على الطريقة التي تتبعها الإدارات الأمريكية المتلاحقة.

وروسيا بالتأكيد لا تريد فتح جبهات لكنها على ما يبدو تريد تأكيد تحالفات، فالخطوة الروسية تجاه سورية تحمل مؤشرين أساسيين:

الأول هي الذهاب إلى أبعد الحدود في المواجهة الدولية القائمة، وسورية ربما تكون الملف الذي ظهر في هذه المواجهة، لكن في المقابل فإن التعامل مع الجامعة العربية مازال ممكنا، فاختراق الجبهة العربية على ما يبدو هو طموح روسي ولكن عبر الملف السوري في الوقت الحاضر، وربما يبدو من الصعب تخيل مثل هذا الأمر في ظل استقطاب حاد وربما معركة خليجية ضد سورية، لكن موسكو تعرف أيضا أن بعضا من الملفات الخليجية تتقاطع مع الدبلوماسية الروسية مثل الملف النووي الإيراني، والصراع على الطاقة، فهذا الهامش مهما بدا ضيقا لكنه منطقة حساسة يمكن عبرها النفاذ إلى الجبهة الخليجية التي اتحدت ضد سورية.

الثاني الوقوف ضد عمليات الإقصاء الإقليمي، وسورية معنية بالدرجة الأولى في عملية الإقصاء القائمة حاليا، فالثوب الجديد الذي تنسجه المعارضة يتوافق بشكل كبير مع الإستراتيجية الأمريكية للمنطقة، وهو يطال بالدرجة الأولى النافذة السوري على الأزمات، وحتى على الملفات الدولية التي سعت الإدارة السورية لفتحها منذ أكثر من عامين من خلال إيجاد منظومات بديلة إقليمية وحتى دولية، ومهما كان الطموح السوري في شعارها "ربط البحار" لكنه في النهاية يعبر عن دور إقليمي ربما لم يجد الزمن او الممكنات لتنفيذه، لكنه يشكل خطرا استراتيجيا على الأخص في مسألة الطاقة التي سيكون الشرق الأوسط مسرحا متجددا لها من خلال "الغاز الطبيعي" واستخراجه وطرق نقله، ولنتذكر أن ربط البحار يتناسب والاستراتيجية الروسية الدائمة في التعويض عن نقص المنافذ البحرية الكبرى لدى روسيا من أيام القياصرة وحتى اليوم.

مهمة لافروف أصعب وأكثر تعقيدا من مسألة الإصلاحات في الداخل السوري، وربما ستشكل الرؤية الإستراتيجية لروسية خلال العقد القادم ليس فقط على صعيد تحالفاتها بل أيضا على مستوى تثبيت موقعها الدولي من جديد.