تبقى السياسة من أكثر العناوين جذبا داخل سورية، فـهي تلخص هذا المشهد الذي تعرف عليه السوريون سريعا بعد الاستقلال، فتوقف الحياة السياسية كان بدافع "القضايا القومية" مثل حرب فلسطين، حيث أنهى الانقلاب العسكري لحسني الزعيم "الحياة الدستورية"، وبعد عقد تقريبا أنهت الوحدة بين مصر سورية مرحلة كاملة من تاريخ سورية لحساب "الهوية والانتماء العربيين" فحلت الأحزاب نفسها لصالح "الوحدة بين مصر وسورية".. وحتى على مستوى الحياة الحزبية فإن التفاصيل تبدو واضحة في رفع المسألة السياسية باتجاه يتجاوز أحيانا سويات الخطاب الحالي مثل المواطنة على سبيل المثال لا الحصر، رغم أن الخطاب السياسي مايزال يصدر عن نفس التيارات إن لم نقل الأحزاب، فهل يمكن اعتبار ما حدث داخل الحياة السياسية تطورا أم تبدلا!! وهل يمكن توقع أي شكل للحياة السياسية داخل سورية؟!!

إن مثل هذه الأسئلة غالبا ما يتم تداولها في ذروة الأزمات الإقليمية، فهي نادرا ما تصبح عناوين دائمة للإعلام إذا لم تترافق مع اهتزاز سياسي، فقراءة الحياة السياسية على الأقل منذ سبع سنوات يرتبط أساسا بالتحولات الإقليمية، والاستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة، وهو أمر يتكرر، فمع بداية تفكك الاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات شهدنا واقعا مماثلا في الحديث عن الحياة السياسية، لكن التوقعات بهذا الموضوع تبدو دائما نوعا من التخمين لسببين أساسيين:

الأول: أن المعبرين عن الحياة السياسية يحاولون التعامل مع أي تحول بمدى تأثيره على سورية، بدلا من أن يحاولون معرفة ما هو الدور السوري في هذا التحول، ولا يبرر هذا "الاعتزال" بمسألة البعد عن "المشاركة السياسية" فقط حسب حديث المعارضة اليوم، لأنه على ما يبدو كان موجودا سابقا في كل التحولات التي عاشتها سورية منذ الاستقلال وحتى عام 1963. فالوحدة السورية – المصرية كانت مثالا فهي جاءت بعد عدوان 1956 وما رافقه من تطورات إقليمية دفعت إلى التعامل مع هذه التغيرات باتجاه "الوحدة مع مصر" لكن في المقابل تم تسليم الحياة السياسية بالكامل إلى قيادة جمال عبد الناصر.

إن أحداثا كثيرة توضح أن "الخطاب السياسي" للأحزاب السورية يحاول دائما بحث التأثير من جانب واحد، أو التعامل مع التحولات على أنها المحرك الأساسي لأي تطورات قادمة، وربما يكون السبب الأساسي أن "فكر" الأحزاب لم يكن في يوم من الأيام منفصلا عن حالات أوسع من سورية، سواء في الفكر الماركسي للحزب الشيوعي، أو الفكر العروبي لحزب البعث و "الأحزاب الناصرية"، أو حتى في الفكر االسوري القومي للقوميين الاجتماعيين. فالتحولات ليست مترابطة فقط بل بينها علاقات "عضوية" أيضا.

الثاني: أن الحديث عن الحياة السياسية تتجاوز في كثير من الأحيان "الفكر السياسي" محاولة خلق قفزات سريعة، فنجد أنفسنا في النهاية أمام "خطاب" أو "مطالب" أو حتى مواقف سياسية متناقضة مع "الأساس" الذي نشأت عليه الأحزاب. فالحياة السياسية التي أسستها الأحزاب كان لها ظرفها التاريخي، واليوم فإن التحولات داخل الأحزاب محكومة بالحدث فقط، وهي لم تحسم أسئلتها الأساسية حول طبيعة الحزب ودوره الفكري أو "الانتخابي" سواء كانت داخل الجبهة الوطنية التقديمية أو خارجه.
هذا الخلل يجعل تأثير الأحزاب على الحياة السياسية محدودا، ويطرح الموقف السياسي كـ"صورة ذهنية" أساسية عن الأحزاب، فالسؤال اليوم من الشارع عن الأحزاب هل هي "معارضة" أو من "الجبهة" والجواب يشكل الصورة التي يتبناها المواطن. فالتمايزات داخل الأحزاب تنتهي عند حدود هذا السؤال بينما تبقى الحياة السياسية مجرد معرفة بسيطة للمواقف التي يتم تبنيها من القضايا السياسية الكبرى، وتصبح البرامج تحصيلا للمواقف فقط. رغم أن "المعارضة" أو الوجود في "السلطة" هي مواقع للحزب وليست "صورة" الحزب النهائية.

صورة أولية

بعد عام ألفين تبلورت صورة أولية للمشهد السياسي، ورغم عدم توفر معطيات كاملة فإن "الحراك السياسي" بدأ يخلق فرزا على الساحة السورية من جديد، وكان واضحا منذ البداية أن هناك تجربة سيخوضها النشطاء ولو عبر مسميات مثل المجتمع المدني، كما انهم سيتعاملون مع نفس الصيغ الحزبية حتى ولو تبدلت المطالب أو تغيرت التوجهات، فاليسار ظهر أكثر ليبرالية من الأحزاب التي نادت بها، ومنظمات المجتمع المدني كانت لها مطالب سياسية حولتها إلى تجمعات للناشطين بدلا من أن تكون "منظمات أهلية".

في المقابل فإن حزب البعث حاول التأثير على المشهد العام من خلال "الأولوية الاقتصادية"، وبغض النظر عن مبررات هذه الأولوية لكنها سرعان ما أنتجت تسارعا في معظم الأمور، فخلال سبع سنوات أحاطت بالمواطن السوري مجموعة من التحولات التي لم يألفها من قبل، مثل الانفتاح على الأسواق والإعلام الخاص وجمعيات حقوق الإنسان، لكن كل هذا الانفتاح لم ينقل الحياة السياسية إلى أفق جديد، فتيار الأحزاب لم يتبدل، وحتى الشخصيات التاريخية فيه بقيت "مرجعيات" حتى مع ظهور قيادات شابة، والأخطر أن التصور السياسي لم يحدث نقلة واضحة رغم حجم "الحدث" الذي أحاط بسورية بعد احتلال العراق، وما تبعه من هزات سياسية في لبنان وفلسطين.

الحياة السياسية في سورية ظهرت منذ عقد تقريبا وكأنها تبحث عن "إطار تشريعي" عبر المطالبة بإلغاء قانون الطوارئ أو بإقرار قانون للأحزاب يعيد تنظيم الحياة السياسية، ومع ضرورة الشرعية والتنظيم لكن السؤال الذي هو في المؤسسات السياسية التي ستعمل وفق ما هو منتظر من قوانين وتشريعات، على الأخص أن التشكيلات السياسية المعلن عنها، المرخصة أو غير المرخصة، موجودة بفعل الواقع وليس بقوة تأثيرها، وفي حال "شرعنة" أنشطتها فهل ستقوم بأكثر مما قامت به المؤسسات السياسية الشرعية الموجودة ضمن إطار الجبهة! على الأخص أن بعض هذه الأحزاب هي انشقاقات عن الأحزاب داخل الجبهة؟

ربما في الصورة الأولية فإن تشعبات الحياة السياسية بدأت تتبلور منذ عشر سنوات، لأن كافة الأحزاب واجهت استحقاق وجودها ولو بشكل "غير مرخص"، ودخلت اختبارات متعددة ابتداء من أزمة المنتديات، لكنها في النهاية تنتظر اليوم ظروف التغيير بعد عدة تجارب نشأت في ذروة الأزمات التي عاشتها سورية مثل "إعلان دمشق" أو "إعلان بيروت دمشق"، والواضح أن رفض التدخل الخارجي بالنسبة لها لم يرافقه أي برامج قادرة على جمع "أطراف" الحياة السياسية، فالتجمع الوطني الديمقراطي، وتجمع إعلان دمشق، كانت مشاريع مستعجلة لجمع أطياف المعارضة السياسية، وشبهها البعض بأنها "المقابل" لصيغة الجبهة الوطنية التقديمية.

في المقابل حاولت الجبهة الوطنية التقدمية تطوير عملها بتوسيعه ا من خلال "الصحف الحزبية"، أو توسيع عدد أعضاء الجبهة. لكنها أيضا لم تسلم من المأزق السياسي الذي وقعت به باقي الأحزاب. فميثاقها رغم تعديله لُيدخل التعددية السياسية والاقتصادية لكنه لم يوضح بشكل كامل نوعية هذه التعددية بل ربطها بمفهوم واسع (النابع من حاجات شعبنا).

رغم ذلك فإن أحزاب الجبهة كان أمامها فرصة كبيرة لتعميق "الحياة السياسية" إلا أنها تعاملت بهامش من "العمومية" مع هذه الفرصة دون أن تحاول بناء "الحياة السياسية" وفق التغيير الذي أتاح لها من جديد تعبيرا أكثر وضوحا عن نفسها عبر الصحف أو نشاطتها المختلفة. فالأزمة الأساسية أنها لم تلحظ أن دخولها إلى المجتمع اليوم مختلف كليا عن كافة المراحل السابقة، وأن مصداقيتها ليست في نشاطاتها أو بياناتها بل بإلغاء "صورتها النمطية" التي استمرت منذ الاستقلال وحتى اليوم دون تبدل. فالحياة السياسية بالنسبة لأحزاب الجبهة منفصلة عن "الحياة العامة" التي تتولاها اليوم مؤسسات اقتصادية في الغالب، فتقوم بحملات واسعة في مناسبات وطنية، وبالطبع فإن خروج الجيش السوري من لبنان ثم قضية اغتيال رفيق الحريري أوضحت أن مثل هذه المؤسسات كانت قادرة على "حشد" جمهور متفاوت من المثقفين وصولا إلى الموظفين.

خارج التوقعات

إن مسألة تطوير الحياة السياسية عبر التشريعات لا تبدو اليوم كافية، فالتشريعات ضرورة أولية لكنها يجب أن تترافق مع معطيات يطرحها "المعبرون" عن الحياة السياسية، على الأخص أن شكل "المواجهة الإقليمية" اليوم لا يطرح تأثيرات كثيرة، فالرهان على الحدث الإقليمي من أجل التعامل مع تطوير الحياة السياسية لن يكون فاعلا، وما لم يحدث التحول في النظرة إلى الحياة السياسية من الداخل فإن كافة التشريعات المرتقبة لن تؤدي إلى الكثير على مستوى "الحياة السياسية".

ربما يكون المطلوب في البداية إعادة الارتباط ما بين المواطن والسياسة، هذا الارتباط الذي يعتقد البعض أنه متوفر اليوم عبر اهتمام الناس بالحدث السياسي وهو في الواقع تعبير مهزوز عن فهم "المواطنة" التي هي قبل أن تكون حقوقا سياسية هي حقوق انتماء إلى الوطن، بحيث يشعر المواطن انه معني بالتفاصيل المحيطة به قبل أن أن يتحدث عن تداول السلطة. هذه المواطنة لا يمكن بناؤها إلا عبر الأحزاب السياسية التي تستطيع أن تقوم بـ"صناعة" هذا الانتماء من خلال المؤسسات التي تكون بديلا عن الخلاص الفردي. وهذه "الصناعة" هي التي تؤسس لحياة سياسية جديدة لا يمكن لأحزاب فقط أن تقوم بها لأنها سلسلة متكاملة من العلاقات ما بين الدولة والأحزاب ومؤسسات المجتمع الأهلي.

عمليا فإن الأحزاب تواجه داخل الحياة السياسية السورية جملة استحقاقات:

فهي أولا مسؤولة عن إعادة رسم "الصورة الذهنية" للحزب داخل المجتمع، وهذا الأمر لا تخلقه البيانات أو الافتراق عن سياسة الحكومة، أو حتى جملة المطالب، بل هي معنية بالتعبير عن نفسها ككتلة تملك برامج واضحة أو على الأقل قراءات لتفاصيل "الحياة السياسية".

لا تستطيع الأحزاب تبديل "صورتها الذهنية" بعمليات تجاوز لكل المصطلحات التي تراكمت عبر تاريخها، فمادامت "الهوية" تشكل جزءا من قضيتها فإنها ستستمر، إلا إذا تبدل الحزب كليا أو قرر الانتقال إلى نوع جديد من الأحزاب. والديمقراطية وحقوق الإنسان وكافة المسائل السياسية الأخرى لا تنفصل عن موضوع الهوية، فهي آليات سياسية لا يجوز المطالبة بها على حساب القضايا الأخرى للأحزاب، خصوصا أن الهوية شكلت عصبية الأحزاب منذ ظهورها قبل أكثر من نصف قرن.

على الأحزاب كي تفعل "الحياة السياسية" أن تملك تصورا واضحا للقضايا التي تطالب بها، لأن الإجراءات السياسية لا يمكنها أن تضمن الوصول إلى حلول داخل الحياة السياسية، والإجراء الديمقراطي على سبيل المثال الذي أوصل حماس إلى السلطة في "مناطق السلطة الفلسطينية" يستخدم اليوم من أطراف التنافس لسحب الشرعية وأحيانا للوصول إلى حلول سياسية "مستوردة".

لا شك أن هناك مرحلة سياسية نعيشها اليوم مختلفة عن سابقتها، لكنها في نفس الوقت مرحلة لم تكتمل فكريا على الأقل في أذهان "المعبرين" عن الحياة السياسية، لذلك فإنها يمكن أن تتطور خارج توقعات المحللين والمنظرين الذين قدموا خلال السنوات القليلة الماضية قراءات لم نستطع عبرها التوصل إلى أي صورة أولية لما يمكن أن يحدث داخل المشهد السوري بعيدا عن التأثيرات الإقليمية أو حتى الدولية. وربما فإن المسألة في الديمقراطية ليست مسألة "نظرية"، أو حتى مجرد شعارات يمكن استخدامها في "الخطاب السياسي". فإذا كان من الضروري بناء "ثقافة ديمقراطية" فمن الضروري أيضا أن تنتبه التيارات السياسية إلا أن جمهورها لا ينتظر "حديثا ديمقراطيا" بل آليات واضحة تنعكس في تفاصيل حياته.