ليست مسألة "التيار الثالث" في حركة معينة تظهر اليوم في سورية، لأن الفكرة بذاتها هي التي تدفع للبحث والتساؤل في ظل "شارع معارض" يبدو أنه أقرب لمفهوم "الوسطية" وأكثر بعدا عما يمكن أن يقدمه "التيار الثالث" من رؤية مختلفة للأزمة، وبغض النظر عن أي حراك سوري أو تجمع يحمل اسم "الثالث" لكن التعرض للمفهوم بذاته هو الذي يمكن أن يقدم صورة أوضح عن إمكانية إيجاد رؤية مستقلة عن "الاستقطاب" التقليدي للأزمة في سورية.

عمليا فإن المقاربة مع السياسة الدولية يمكن أن تطرح بوضوح "أزمة" التيار الثالث، ويمكننا هنا أن نسأل عن نموذج محدد "فرنسي" على وجه الخصوص أسسه شارل ديغول، ورسم من خلاله "استقلالية" للقرار النووي الفرنسي، فهل يمكن أن نفهم من هذا التحول قوة للتيار الثالث؟ وهل كانت فرنسا وسط الصراعات الحادة طرفا ثالثا؟

التيار الثالث
أزمة أم حل

هناك نموذجين في هذا الموضوع: الأول خلال الحرب الباردة عندما دخلت فرنسا وسيطا في حرب فيتنام واستضافت المفاوضات التي أدت للانسحاب الأمريكي، وهو نموذج له شروطه الخاص وسط صراع دولي وتورط أمريكي في حرب طويلة، أما النموذج الثاني فكان قبل حرب العراق، ما الذي حققته فرنسا كتيار ثالث خلال أزمة مناقشة الملف العراقي في مجلس الأمن؟! ففرنسا الذي تميز خطابها بمحاولة تعميق مفهوم "الشرعية الدولية" كانت تقف مع أقوى شعور دولي ضد الحرب، لكنها في نفس الوقت لم تكن ترى في النظام السياسي العراقي مسألة يجب الدفاع عنها، بينما رأت في موقف الولايات المتحدة حالة أسوء، من حيث النتائج الاستراتيجية على فرنسا، من استمرار النظام السياسي. وهذه الصورة تقدم ومضة اولى عن أزمة التيار الثالث الذي يقف عند حدود مساحة غامضة وسط عالم لم يخلق بعد مفهوم التيار الثالث.

وربما كانت فرنسا نموذجا شديد المعاصرة عن حالة تملك القوة عبر جملة تيارات، لكنها في نفس الوقت لا تملك الآليات اللازمة للتعامل مع طبيعة التيار الثالث وقدرته على فتح آفاق جديد في العمل السياسي. فكانت الحرب التي ترافقت بمظاهرات في كافة انحاء العالم ضد الحرب ... وكان لا بد لفرنسا بعد أن انتهى الطرف المعني بالأزمة أن تعود مجددا للعب دورا آخر، لكن الأزمة الأساسية بقيت قائمة، حيث يجد "التيار الثالث" نفسه محشورا بين خيارين صعبين وغير قادر على رسم خيارته نتيجة لحدة الصراع أحيانا، أو لعدم قدرته على رسم خياراته بواقعية ... وهذا السؤال ينسحب إلى خارج فرنسا وباتجاه الصراعات الدائرة بين السلطة الرسمية والمعارضة أحيانا، او بين أقطاب التيار السياسي الواحد.

ورغم أن الحديث عن "تيار ثالث" يعني في النهاية المحاولة في خلق إبداع خاص وسط الأزمة، يخرج عن المألوف، لكنه في الإجراء السياسي لا يهدف إلى إصلاح أي من طرفي الصراع، فعدم انحيازه يضعه ضمن سياق الضعف وسط حدة الأزمة. لكن قوة التيار الثالث تكمن عمليا فإنه يبحث عم هم خارج الدائرة الفعلية للاستقطاب، أي انه يريد دفع الآخر – المحايد لاتخاذ موقف معه.

ما ضرورة هذا التنظير؟! أو العودة إلى فرنسا للبحث في يعض المسائل التي باتت معروفة؟! هذا السؤال يجابهنا في البحث عن المستقبل، بلون خاص .. لأن مفهوم التيار الثالث وإن بقي ضعيفا لكنه قادر على فهم طبيعة "الغد" لأنه ينسحب من النخب "الرسمية" و "المعارضة" محاولا خلق تفاعله الخاص مع المجتمع ... مع الثقافة الاجتماعية التي يهمها "الغد" بعد ثورة القلق التي نعيشها نتيجة التوقف عند حدود صراع رسمه الماضي.