لم يعد الحديث عن ما بعد العصر الأمريكي نوعاً من فذلكة سياسية أو أمنيات. حينما كتبنا عن ذلك في كتابنا “النظام السياسي العالمي الجديد، 1991” كان ذلك من قبيل التحليل الاستباقي، ولم يكن ممكناً تصديقهُ، وربما غلف عدم التصديق ضروب من الرغبات أو ما يسمى بالعرف الإبستمولوجي “عقبة المعرفة الشائعة وممانعة التغيير”.

كنا آنذاك نفكر فيما ليس مفكراً به أو بالقطع الإبستمولوجي (Epistemological Rupture) أو ما يدعوه – لاحقاً – نسيم طالب (البجعة السوداء) أو ما يُدعى بالعرف الإداري (التفكير خارج الصندوق).

كنا وما زلنا نحذر من أن الدول الكبرى لا تحتضر على الفراش، وأن أخطر ما يمثل احتضارها أنها تمتلك أسلحة نووية وذكريات عظيمة لم تغب عن الذهن أو الذاكرة القريبة في التاريخ والاستراتيجيا ولم تُدفع إلى الذاكرة البعيدة.

لم يخفِ المسؤولون الصينيون والروس، كما لم يعد الأمر – حسب زبينجيو بريجنسكي – مجرد فورة صراحة، أن هبوط أمريكا وصعود الصين وروسيا قد أصبحاً أمرين حتميين. ولكن وبحسب (طبيعة الأشياء) فإن ليس لدولة كبرى أن تنكسر، وأقصى ما يجب أن يكون هو هزيمة بلا أفول أو بلغة أخرى أن (تتأرشف) تلك الدولة الكبرى.

ولكن – وكما ينصح المسؤولون الصينيون والأمريكيون – عليها ألا تنحدر بشكل سريع جداً. ورغم أن بريجنسكي يصادق على ما سبق، إلا أنه يعتقد أن ليس هنالك من احتمال أن يخلف الولايات المتحدة خليفة دولي بارز وحيد ولا حتى الصين، وهو أمر قد نصادق عليه مرحلياً، ونصادق على أن مرحلة من الفوضى العالمية وعدم اليقين الدولي قد زادت في سنة 2011 إلى حد الإنذار بفوضى عارمة. كما نرى أن هذا الإنذار يخشاه الأمريكيون كما كان يخشاه الروس والصينيون، إلا أن مغامرة أطراف كفرنسا وبضعة دول إقليمية باتت تخشى فقدان المكانة الإقليمية قد رفعت من مستوى احتمالات الفوضى، والواقع أن (الكبار - الأقوياء) يخشون الفوضى لكن (الكبار - الضعفاء) يراهنون أحياناً على الفوضى لإرباك الأقوياء على أمل الانسحاب من المشهد الدولي بأقل قدر من الخسائر.

اللافت أن التحول نحو نظام عالمي جديد تسارع في العامين (2011-2012) حتى أن المسافة التي فصلت بين إعلان الرئيس الروسي بوتين في مطلع عام 2012 عن أفول نجم القطب الواحد واستدراكه أن الدول الصاعدة ليست جاهزة بعد لاستلام زمام العالم، وبين الإعلان لاحقاً ،كانت مسافة زمنية قصيرة، وذلك عن مؤتمر دول البريكس وبدء تشكيل منظومة اقتصادية – بنكية جديدة (بنك البريكس) وارتفاع حدة ونبرة كل من روسيا والصين بما شكلّ تجاوزاً للفيتويين وأثرهما إلى حد قيادة الحراك الإقليمي في شرق المتوسط بما لا يدع مجالاً للشك بأن لا عودة إلى الماضي (الأمريكي) وربما لا (قسمة) فيها إلى الآن.

في هذا الوقت كان لإعلان أوباما مطلع 2012 استراتيجية أمريكا الجديدة التي تبقى في حالة حذر في شرق المتوسط، وكأنها تسلم بتبدل معايير القوة هناك، فيما تنتقل إلى محيط الصين لتسليحه،ويأتي تصريح الوزيرة كلينتون من أستراليا متابعةً للحديث عن (مكاسرة ما!) مع الصين، هو ما دفع الأخيرة للرد بأن أحداً لن يستطيع أن يمنع بزوغ فجر الصين.

وقد كان لهذين الإعلانين أن دفعا الصين لعدم الانتظار لعام 2016 حتى تعلن عن قوتها فإذا بها تتسارع في سبيل إعلان نظام يرونه - في التصريحات الروسية - متعدد الأقطاب، ونراه نظاماً عالمياً من محورين بأقطاب متعددة حول كل من المحورين، ولكنه سيكون محور الصاعدين ومحور الهابطين.

هذا الصراع الذي اشتد بات واضحاً أنه قد هز أركان الديبلوماسية الأمريكية التي اضطرت للإعلان عن الانسحاب، ولو اللفظي، من المواجهة، في شهر أبريل 2012 أن لا حرب باردة بينها وبين الصين، إثر لقاء جمع رئيس مجلس الدولة الصيني (الرجل الصيني) مع كوفي أنان ليبلغه أن الصين تعلم أنها مع روسيا أول دولتين في العالم وأن عليه أن ينسق معهما في إشارة بالغة الشدة إلى أن عنان الذي كان شاهداً على عالم القطب الواحد (1991 – مطلع القرن الواحد والعشرين) عليه أن يكون شاهداً على أفول ذلك العالم وأن قضايا شرق المتوسط قد آلت إلى موسكو وبكين.

ولكن واقع الحال أن واشنطن التي أضاعت عقداً في حرب، بدت كحرب النجوم بالنسبة للاتحاد السوفييتي، وهو ما أنهكها وحوّلها مع أزماتها الأخرى إلى أكبر دولة مدينة وقاب قوسين أو أدنى من الإفلاس، تعلن عن توجهها إلى محيط الصين في محاولة للعب في المحيطين الهندي-الهادي وتنسحب من هذا الإعلان بخفة تشعر المراقب أنها قد غدت - فعلا – بلا وهج الدولة الكبرى التي سرعان ما تخسر ثلثي قوتها عندما تستخدم تلك القوة التي خلقت للكبار –فقط- كي يلوحوا بها!.

وجه العالم يتغيّر، إنه النظام العالمي الذي تأخر تبلوره منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، لكنه يتسارع في بلورة نفسه رغم أن بعضاً من قواه الجديدة لم تكن مهيأة لذلك، إلا أن الأحداث المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط سرعان ما دفعتها إلى دخول لعبة (تنحية) الإرادات.. وبسرعة.

لكن النتائج المترتبة على صعود قوى جديدة وأفول قوى قديمة، كانت لتوها هي قائدة العالم كالولايات المتحدة الأمريكية، سرعان ما يلقي بظلاله على القوى الإقليمية وقد يهيئ لصراعات دامية قد لا تجد طريقاً إلى الحل إلا بعد بلورة النظام العالمي الجديد و(رضا) كل طرف بمكانته الجديدة!