حين أنشأت وكالة الاستخبارات المركزية تنظيم القاعدة، ومن بعده داعش، كانت تعتقد أنها تجند مرتزقة لتنفيذ مهمات محددة لا يمكن أن تنسبها لنفسها. لكنه لم يخطر في بالها يوماً أن يأخذ مدنيون على محمل الجد، التعابير الجوفاء التي كانت تتخيلها وهي تحرر بيانات الاعتراف بعملياتها.

في الواقع، لم يعط أي من الجهاديين أهمية تذكر لهراء أسامة بن لادن حين قال إبان عملية «عاصفة الصحراء» إن وجود الجنود غير المسلمين من حلف شمال الأطلسي فوق الأراضي السعودية، تدنيس للمقدسات يستوجب إصلاحاً. لذلك، لم يكن لدى مرتزقة تنظيم القاعدة أي مشكلة في القتال إلى جانب حلف شمال الأطلسي سواء في البوسنة والهرسك، أو في كوسوفو. ولا يبدو هناك أي سبب للاعتقاد بأن الأمر قد اختلف في الوقت الحالي.

مع ذلك، لاحظت أثناء الحرب على الجماهيرية الليبية أن بعض مرتزقة القاعدة كانوا يميلون إلى العودة فعليا لأسلوب الحياة التي كانت سائدة في القرن السابع الميلادي «عصر النبوة». هذا ما حصل على الأقل إبان الإمارة الإسلامية الغامضة بقيادة عبد الكريم الحصادي في درنة. لم يقصدوا بذلك القرن السابع المشرقي الذي كان مسيحيا في ذلك الحين، ولم يتكلم العربية بعد، بل القرن السابع لشبه الجزيرة العربية، المجتمع المتأخر، المؤلف، حسب وصف القرآن الكريم لهم، من أعراب قساة، أجلاف، سعى النبي (صلى اللـه عليه وسلم) لتحولهم وتهدئة نفوسهم.

وفي وقت لاحق، لاحظت أثناء سنوات الحرب على سورية، أن السوريين الذين ساندوا القاعدة (والآن داعش)، من دون دوافع مادية، كانوا جميعاً أفراداً في أسر لا يسيطرون على خصوبتهم. أي إن الانقسام الذي حصل في البلاد، ليس سياسيا بالمعنى الحديث للكلمة.

نجاح الإمارة الإسلامية يأتي في المقام الأول من دعم العديد من الدول لها بالمال والسلاح. أما الدعم الذي يأتيها من فئات من السوريين والعراقيين، لا علاقة له بالقرآن، ولا بالصراع الطبقي. إنها «ثورة» أسلوب حياة زائل، لمجتمع ذكوري عنيف، ضد أسلوب حياة محترم للمرأة، وتحديد النسل.

لقد حدث هذا التحول في أوروبا مع الهجرة من الريف إلى المدن، وخلال الحربين العالميتين، دون إثارة حروب إضافية. واكتمل ذلك التحول بنجاح باهر في إيران على يد الإمام الخميني في بداية الثمانينيات، وأخذ يمتد تدريجيا في البلاد العربية إلى أن تحطم فوق داعش، مستحضرا نزاعا لا علاقة له بتاتا بالاختلاف الفقهي بين شيعة وسنة.

كيف يمكن للولايات المتحدة التي نشأت منذ قرنين من الزمن فقط، أن تدرك حجم الكارثة التي تسببت بها في أقدم حضارة في العالم؟

كيف يمكن للولايات المتحدة- هؤلاء الأثرياء المتوحشين- وبدو الخليج أن ينظموا شعوبا متحضرة منذ ستة آلاف سنة؟

كيف يمكن لوكالة الاستخبارات المركزية توقع إقدام شبان أوروبيين، يحنون هم أيضاً لتلك العصور الغابرة، على الالتحاق بعشرات الآلاف بداعش، ليعارضوا مسيرة الزمن، وليحطموا أعمالا فنية تعود إلى العصور السحيقة؟

الأميركيون، وكذلك الأوروبيون، غير قادرين على الاعتراف بأن الشعوب التي استعمروها قد استدركت تخلفها التقني، في حين هم، لم يستدركوا تخلفهم الحضاري بعد، ويجدون أنفسهم وجهاً لوجه مع قدراتهم المحدودة، عاجزين عن التأثير بالكارثة التي تسببوا بها.

ترجمة
سعيد هلال الشريفي

titre documents joints


Al-Watan 1206
(PDF - 181.6 كيليبايت)