عندما تواطأ النظام الإيراني مع الأميركيين في حربهم ضد
أفغانستان طمعاً بحصة مذهبية شيعية أفغانية. وبعد أن اطمأنَّ الأميركيون لحسن النوايا الإيرانية، أغرقوهم بوعود في العراق، وهي أكثر جزاءً لهم من أي مكان آخر في الدنيا. ففي العراق ممر إلى الأمة العربية، وفيه تمارس ضغوطاً للتسلل إلى قلب الوطن العربي. وفي العراق يتوهمون أنهم يبنون قلاعاً مذهبية يستفيدون من سذاجة تياراتهم الدينية السياسية الداعمة لها. فيتبادل الطرفان حالات الاستقواء، ويتقاسمان المصالح والغنائم.
إذا كانت المصالح الإيرانية تتلخص بإيجاد متكئٍ مذهبي يحمي تواجدها الآمن في العتبات الشيعية المقدسة، ويحمي أوراق القوة الضاغطة على دول الجوار العربي، ويعطيها امتيازات للمساومة السياسية مع الدول الأجنبية ذات المصالح في العراق وغيره من أقطار الخليج العربي وإماراته، فإن مصالح الحركات السياسية الشيعية تصبح آمنة لنخبة محدودة العدد من المرجعيات الدينية والمرجعيات السياسية والاقتصادية الشيعية في العراق.

لم تكن من هموم الحركات السياسية الدينية، على الإطلاق، مصلحة الدين أو المذهب. بل هي قواعد لتمويه الأهداف الرئيسية لها، ومن أهمها حماية مصالح أولياء الأمور التي يستطيع الفقه الإسلامي أن يغطيها بألف رداء ورداء، مستندين إلى طيبة القواعد الواسعة من المنتمين إلى المذهب من جهة، وإلى وجوب طاعة ولي الأمر من جهة أخرى. ومن تحديد مصطلح ولي الأمر تبدأ رحلة الفتوى الدينية من ذكاء وشطارة في تسويق هذا أو ذاك ممن لهم أطماع في بناء مراكز للتأثير في نفوس المؤمنين الصادقين، كخطوة أساسية لفرض أنفسهم في الواجهات والمراكز الأكثر حساسية في قيادة القواعد الشعبية والاتكاء إليها في تثبيت مواقع نفوذها وتأثيرها وتحقيق مصالح النخب الاقتصادية والسياسية من المنتمين إلى المذهب.

تواطأ على العراق، نخبتان شيعيتان عراقيتان، بالتعاون والتنسيق والدعم المتبادل مع القيادة الإيرانية، وصوَّرتا للعراقي الطيب أن مصلحة المذهب لا تنفصل عن التعاون مع الاحتلال الأميركي. تلك الخطوة المدخل هي أساسية للخلاص من نظام علماني كافر عجز تحالفهما في السابق عن إسقاطه، فلا حرج من التعاون مع »الشيطان الأكبر« لإسقاطه. أما الخطوة الثانية، التي لا تخرج عن كونها وهماً وسذاجة، فهي الانقضاض على ذلك الشيطان، وتكسير قرونه، وطرده من العراق. وبمثل تلك الخطة الواهمة يسيطر النظام الإيراني بالتعاون وتبادل عوامل الاستقواء مع تلك النخب الشيعية العراقية على العراق.
لا يخرج هذا الوهم عن الخط العام للأوهام الإمبراطورية الفارسية في استعادة أمجاد كسرى، ولكن هذه المرة باسم الدفاع عن آل بيت الرسول.

لقد قامت الإدارة الأميركية، وهي بلا شك أكثر ذكاءً وخبثاً من الإدارة الإيرانية، بتلميع صورة الوعود للحكومة الإيرانية وخلطها بتركيبة طيبة من العسل الأميركي. ولما طاب المقام لجورج بوش، ولما وجد أن الذكاء الإيراني قد تجاوز الحد المسموح به، خاصة وأن التجار الإيرانيين قد هدموا كل البنى التحتية الصناعية والعسكرية العراقية، واستفادوا منها أيما استفادة. ولم يكن السماح باستفحال مرحلة النهب إلاَّ إعادة العراق إلى مرحلة ما قبل الصناعة ليفسح المجال للشركات الأميركية بأن تجد لها مساحة واسعة مما سمُّوه كذباً وخداعاً »إعادة إعمار العراق«.

فإذا كان منطق تقسيم الحصص في العراق مبدأ مسموح به إلاَّ أن للمبدأ حدوداً وقيودا. ومن أهم حدوده أن لا تتجاوز الحصة الإيرانية دائرة تفكيك البنى التحتية وبيعها. أي أن الحصة الإيرانية لا تتجاوز الجزاءات المادية، أما الجزاءات الدينية فلن تتجاوز أيضاً حدود تأسيس جدران عزل مذهبي بين الطوائف العراقية. وأما الجزاءات السياسية فلن تتجاوز سقف المشاركة في بناء نظام سياسي لا يخرج عن سيطرة الأوامر والنواهي الأميركية.
ولما استشعرت الإدارة الأميركية أن أطماع الإدارة الإيرانية قد تجاوزت الحد المسموح به. ولما استشعرت أن الإيرانيين سيفرضون أنفسهم قوة أساسية في معادلة بناء عراق ما تحت الاحتلال. لجأت الإدارة إلى اتباع وسائل وعوامل تقليم أظافر التأثير الإيراني كلما طالت أكثر من اللازم.

وحكاية المفاعل النووي الإيراني أكثر من معروفة. وحكاية التهديدات التي وجهتها الإدارة الأميركية، سواء مباشرة أو عبر أدواتها –وأكثرها لفتاً للانتباه تصريحات من أطلقوا عليه لقب وزير الدفاع العراقي- واضحة الأسباب والنتائج.
فإذا كانت الإدارة الأميركية قد وجَّهت رسائل الترهيب والترغيب إلى أهم حليف تاريخي لأميركا في المنطقة، ونعني به الحليف التركي، من أجل إعادته بين فترة وأخرى إلى بيت الطاعة. فكم يكون الأمر ملحاً بالنسبة للحليف الإيراني وهو تكتيكي جديد؟
لم يستطع الحليف التركي أن يتحمَّل وطأة المشروع الأميركي، الذي لا يرى أحداً خارج ذاته، وأن يسكت عن أكاذيبه وخداعه، بالنسبة للعراق. المشروع الأميركي الذي يعمل على لمَّ شمل حليفيه التركي والكردي في الموافقة على تطبيق مشروع إذا استجاب لمصلحة طرف منهما لا بُدَّ من أن يكون مناقضاً لمصلحة الطرف الآخر، أي يريد أن يزاوج المتناقضات.
لقد شعر الأتراك بتلك الخطورة وراحوا يعالجونها خارج بيت الطاعة الأميركي. أي أن الأتراك لم يستطيعوا أن يكونوا أذكياء أكثر من حليفهم الأميركي، فهل يستطيع النظام الإيراني أن يكون أكثر ذكاءً من الأتراك؟
شعر الأتراك بحجم المشكلة، فاستفاق الإيرانيون متأخرين على معرفتها. وربما استفاقوا على وقع دقات ناقوس الخطر التركي. ومعرفة الشيء متأخراً خير من الجهل به تماماً أو تجاهله إلى ما شاء الله.

عاملان خطران يتهددان كل الأنظمة المحيطة بالعراق
، وهما:

 الفيدرالية العراقية التي تستجيب تماماً للحركة الانفصالية الكردية.
 أما الثاني فهي مظاهر التسلل الصهيوني إلى العراق عامة وشماله بشكل خاص.
ليست الفيديرالية التي، في أحسن الأحوال، غضَّت الإدارة الإيرانية النظر عنها لوهم منها أنها تؤمن لها موطئ قدم في جنوب العراق، في مصلحة أحد من دول الجوار. ففي أحسن الأحوال ستكون الفيدرالية أسلوباً جديداً في المخطط الأميركي لن يرى مصلحة أحد في تطبيقها إلاَّ لإضعاف عامل »المناعة الوطنية« في دول المنطقة قاطبة. بحيث ترى الإدارة الأميركية أن تصارع التعدديات والأطياف يكسبها نقاط قوة في الإمساك بالمحيط العراقي كله. وإذا تصارعت التعدديات في داخل الحدود الوطنية والقومية، فلن يكون تصارعها إلاَّ مضبوطاً على إيقاع المصالح الأميركية، بحيث تلعب الإدارات السياسية للشركات الكبرى دور الحكم بينها.

إننا نؤكد أن تلك الحقيقة لم تكن ماثلة في العقل الإيراني الذي راح يروِّج لمستوى ذكائه واهماً أنه يتذاكى على أصحاب المشروع الأميركي، وهو –اليوم- يرى نفسه غارقاً في حبائل أوهامه. خاصة وأن الحليف الأميركي يعمل على إعادة تجميع أوراق القوة التي تسلل بعض حلفائه لالتقاطها من هنا أو هناك في الساحة العراقية.
إن الفيديرالية هي الحل الأمثل لحلفاء أميركا من الانفصاليين الأكراد. فهي الخطوة الأساسية التي يراهنون عليها في تأسيس كيان انفصالي عن العراق، وهي –في الوقت ذاته- تأسيس لنواة الدولة الكردية الكبرى التي ستحرِّض أكراد تركيا وإيران وسوريا للانضمام إليها. ولو تحقق الحلم الكردي، تحت رعاية أميركية وصهيونية، فسوف يصب –أيضاً- في مصلحة التحالف الأميركي الصهيوني. فالفيديرالية –بهذا المعنى- ليست سوى حاجة أميركية صهيونية.
لم ينفع سكوت الإدارة الإيرانية، إذا لم نقل تواطؤها، عن الموافقة على المشروع الفيديرالي الذي صُمِّم له علم جديد لم يرَ النور، شيئاً. بل أفاقت على خطورة هذا المشروع، الذي لم يدعها تكسب من خيراته شيئاً في جنوب العراق فحسب، بل سيشكل خسارة لها على البناء الداخلي الإيراني أيضاً.

أما العامل الثاني فهو يشكل خطورة أكثر على مصالح الدول المحيطة بالعراق. وخطورته لا تنفصل عن مدى انتشار الخلايا السرطانية الصهيونية، بسهولة ويسر، إلى مجاورة إيران وتركيا معاً.
لم تتوسَّع الدولة الصهيونية، منذ حرب العام 1967م، شبراً واحداً، وهي التي كانت تطمع بأن تصل إلى النيل والفرات. وإذا بها –من خلال احتلال العراق، بتآمر وسذاجة من بعض دول الجوار ومنهما تركيا وإيران، تصل بكل سهولة ويسر. فتسهم في تخريب العراق وتفتيته. وتتسلل بثياب أميركية إلى كل مفاصل الدولة العراقية. وتعقد بروتوكولات مع أكراد العراق لبناء دولة صهيونية – كردية في شماله.
فهل كان ما يحصل يشكل مفاجأة لإيران وتركيا؟
إنها السذاجة والله، ولا شيء غير السذاجة. إنها سذاجة إيرانية، وسذاجة تركية أيضاً. لقد وقع الإيرانيون بشر أعمالهم، وفي حبائل مكرهم عندما توهموا أنهم يتعاونون مع الأميركيين لإسقاط نظام حزب البعث، ونظام صدام حسين، ومن بعدها ينقلبون على الأميركيين…!!!
لقد رفع النظام الإيراني شعارات الوصول إلى القدس وتحريرها. وراحت أبواقه تهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور من المساس بالمسجد الأقصى. فإذا بالصهيونية –بعد أن دخلت بغداد بمساعدتهم- تطرق أبواب طهران. فلا يشعر المتواطئون إلاَّ والخازوق الصهيوني يطرق أبوابهم.

لقد أدرك الأتراك –قبل غيرهم- خطورة المشروع الأميركي – الصهيوني. وهم وإن أتوا متأخرين إلاَّ أنهم أخذوا ينذرون من تلك الخطورة. واستجاب الإيرانيون متأخرين لجرس الإنذار التركي. فما العمل؟
فلندع البكاء والنحيب والندب على ما فات. فقطار الفشل الأميركي يسير بسرعة أمام هجمات المقاومة العراقية. والمشروع أصبح أكثر وضوحاً أمام السُذَّج والمتواطئين. وأصبحت حصص الطامعين من حلفاء الإدارة الأميركية واضحة أيضاً. واستفاقوا جميعهم على الخطر يطرق أبوابهم. وبينهم والمقاومة العراقية، بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، تاريخ من العلاقات اللا سوية. والمشروع الأميركي لا يرى أحداً خارج ذاته. فكيف نرى الحل؟
على الرغم من أن البعض قد يتَّهمنا باللاواقعية، إلاَّ أننا لا بُدَّ من توجيه نداء الضمير إلى الجميع من دون استثناء. أنظمة وحركات. قائلين: لم تصل الأمور –حتى الآن- إلى حافة الطلاق على الرغم من كل الوقائع والمظاهر والأسباب والنتائج…
إن الاخطبوط الأميركي عالق في شرك المقاومة العراقية. وبعد أن تأكدَّت جميع الأطراف، عربية وغير عربية، أن مصالحها لا تخرج على الإطلاق عن مقاومة الأخطبوط. فلتتحوَّل كل الجهود إلى خنادق المقاومة العراقية، ففيها مصلحة للجميع. فبعد القضاء على الخطر، الذي إذا انتصر لن يبقي ولن يذر، يكون الظرف مناسباً أكثر لمراجعة تجارب الماضي بأعصاب ورؤية واضحة بعيداً عن تأثيرات العدو المشترك وتأثيراته، بألاعيبه وحبائله.

وإذا لم يبلغ الدرس مستوى من التأثير على كل الأطراف. وإذا كان البعض منها لم يثق –حتى الآن- بمستوى أداء المقاومة العراقية وتأثيرها. وإذا كان البعض الآخر يخاف الانخراط في مقاومة ضد الاحتلال لسبب أو لآخر، فالمطلوب على الأقل من الطرف الإيراني أن يجمِّد تعاونه الأمني مع قوات الاحتلال، وأن يأمر التنظيمات التابعة له، والتي هي تحت إدارته، أن يتركوا كل المجموعات النائمة –حتى الآن منتظرة حماية ظهرها- أن يقوموا بواجبهم تجاه وطنهم، والتي لن تكون نتائجها إلاَّ في مصلحة كل المعادين للمشروع الأميركي – الصهيوني الخبيث.

الأراء المعبر عنها في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة فولتير