أرتير كويستلر عميل ال أي أر دي البرطانية.مع ايفرين براون،مسؤول السي آي آي المكلف باليسار الاوروبي والافريقي،وجيمس بورنهمان،خبير السي أي اي المكلف بالاورساط الثقافية

عام 1945، أراد الخبراء السوفييت الحصول على الاعتراف بالديمقراطيات الشعبية لأوروبا الشرقية. بدأوا في حملة دولية للسلام معتمدين على مكاتب الاستخبارات. هدفهم كان المحافظة في الهيمنة على " المنطقة الدفاعية"، متجنبين سلسلة من الصراعات المسلحة مع التحالف الأنجلوسكسوني. في بريطانيا، الحكومات المتعافية و بالخصوص تلك الخاصة ب"كليموت أتلي"، بحثت على إحداث القطيعة مع دعاية الحرب التي بررت التحالف مع موسكو من سنة 1942 إلى سنة 1945. في هذا الإطار، في فبراير 1948، و في خضم " المكتب الخارجي" (Foreign Office)، في هيئة بحوث الاستخبارات ((IRD)) أسس "أتلي" وزارة حقيقية للحرب الباردة مدعمة بالأموال السرية و المكلفة بصناعة أخبار خاطئة لإفقاد مصداقية الشيوعيين.

في الولايات الأمريكية، كان الظرف أكثر من مناسب. محاكمات موسكو، نفي تروتسكي، الذراع الأيمن الأسبق لـ"لينين"، و الاتفاق الألماني السوفييتي أساءوا كثيرا إلى الحزب الشيوعي. في هذا الإطار، التحق الماركسيين بالجناح التروتسكي اليساري الراديكالي تحالف جانب منهم مع مكتب الاستعلامات المركزية الأمريكية. بعد سلسلة من الإخفاقات الرهيبة، تراجعت المصالح السوفييتية عن أية هيمنة أيديولوجية في الولايات الأمريكية و اختارت منح الامتياز لدول أوروبا الغربية، بالخصوص فرنسا و ايطاليا.

مصالح الاستخبارات البريطانية و الأمريكية صنعت فكرة ذات مصداقية معينة وعالمية لأجل منافسة الماركسية ـ اللنينيية. في هذا الإطار، صاغ مفكرو نيويورك ـ سيدني هوك، جامس برنهام، ارفنينغ كريستول، دانيال بيل... ـ مقاتلين ثقافيين على درجة عالية من الكفاءة.

"الضربات الملوية" الأولى

مفكرو نيويورك ليسوا بحاجة إلى التسلل إلى الأوساط الشيوعية: إنهم يتواجدون فيها و يـُعرفون بكونهم مناضلين تروتسكيين. بتوظيف مكتب الاستعلامات المركزية لشخص مثل الفيلسوف الماركسي "سيدني هوك" حصلت على المعلومات الضرورية عن اليسار الراديكالي الأمريكي، و حاولت تخريب التجمعات الدولية التي كانت ترعاها موسكو.

في مارس من سنة 1949، أقيمت في نيويورك " ندوة علمية و ثقافية للسلام العالمي" في فندق " والفورد أستوريا". كان ثمة وفود من المناصرين الشيوعيين ، أشرف مكتب الأنباء الشيوعي ( كومنفورم)على الندوة بشكل سري. لكن الفندق كان تحت سيطرة و رقابة مكتب الاستعلامات المركزية الأمريكية التي أقامت مركزا سريا للقيادة في الطابق العاشر. "سيدني هوك" الذي لعب دور الشيوعي التائب، استقبل على هامش الندوة عدد من الصحافيين ليشرح لهم " استراتيجيته" ضد الستالينيين" : ترصد بريد " والدورف" و نشر البلاغات الخاطئة. مستفيدا من " موقع حصان الطروادة " لسيدني هوك، خاض مكتب الاستعلامات المركزية حملة إعلامية مسمومة ذهبت إلى حد الإعلان علانية عن الانتماء السياسي لبعض المشاركين مصورة هكذا " مطاردة السحرة" للسيناتور "ماكارثي". بحماس و اندفاع، قاد "هوك" فريقه المحرّض و الدسّاس، مدوّنا المناشير و مثيرا الفوضى أثناء الموائد المستديرة... في الوقت ذاته، خارج فندق والدورف، تظاهر عشرات المناضلين من اليسار المتطرف حاملين اللافتات لإدانة تدخل الكومنفورم. كانت العملية ناجحة، فقد انتهت الندوة إلى الكارثة.

ثم أخذا بدروس " ضربة والدورف"، رتب مكتب الاستعلامات المركزية الأمريكية و البريطانية معا عملية جمع التروتسكيين في الحرب السرية ضد موسكو، إلى درجة جعلها حالة دائمة من " الحرب البسيكولوجية" التي خاضوها ضد الاتحاد السوفييتي [1].

سيدني هوك، رئيس طابور مفكري نيويورك

ولد في حي فقير في بروكلين سنة 1902، التحق "سيدني هوك" بجامعة كولومبيا أين التقى ب" جون ديوي" معلمه الأول في مجال التفكير. بعد نيله شهادة الدكتوراه، حصل على منحة من مؤسسة "غيجينهيم" التي سمحت له بالدراسة في ألمانيا و بزيارة موسكو. وكما العديد من المفكرين في تلك الحقبة، أعجب ب"ستالين" و بالنظام السوفييتي. عند رجوعه إلى الولايات الأمريكية، بدأ حياته المهنية في جامعة نيويورك قسم الفلسفة. لم يغادر منصبه إلا سنة 1972 ليستقر في ستانفورد في إطار ترقية فكرية نقلته من الشيوعية إلى المحافظة الجديدة. في نهاية الحرب العالمية الأولى، و بعد زواجه من مناضلة شيوعية، سجل "هوك" نفسه في نقابة المعلمين المقربة من الحزب. عمل على ترجمة لينين و نشر كتابا مثيرا للانتباه " Towards the understanding of Karl Marx ". كمفكر نموذجي لليسار الراديكالي، شارك في المظاهرات ضد حكم الإعدام الصادر ضد "ساكو" و "فازيتي". في بداية الثلاثينات، قطع "هوك" الصلة مع الشيوعيين و انضم إلى فرقة التروتسكيين المجتمعين ضمن " حزب العمال الأمريكي" الذي تأسس عام 1938. نظم " لجنة التحقيق حول الحقيقة في محاكمات موسكو" التي كان هدفها تبرئة تروتسكي المبعد من النظام من قبل ستالين..

انطلاقا من سنة 1938، تخلى نهائيا عن المثالية الثورية. في سنة 1939، أسس المجلس لأجل الثقافة و الحرية " Committee for cultural freedom [2] .

كان الأمر أكثر من مجرد قطيعة، ـ راقب هوك أصحابه القدامى لحساب مكتب الاستعلامات المركزية ـ هذه " الخيانة" تشكل بالنسبة إليه فرصة مغرية سانحة سياسيا و ماديا.
عندما تكلم "هوك" عن أسباب تحوّله، أشار إلى أن " الستاليين" مثل " بريخت" الذي أثناء محادثة في نيويورك سنة 1935، مزح في تطرقه لعملية اعتقال "زينوفييف" و "كامينيف": " هؤلاء، كلما كانوا أبرياء، كلما استحقوا الإعدام"!
هذا التشهير يعني الكثير حول أساليب "هوك" الذي لم يتورّع عن الاستشهاد بتعبيرات نقدية بإخراجهم من إطارهم و تحويلهم إلى الشكل القبيح.

في هذا المنطق من المكيدة، كانت مبادرة السيناتور ماكارثي، مدعومة بحذر من قبل "هوك" الذي نشر مقالين،" مخالفة المألوف نعم! المؤامرة لا! )" Heresy, yes ! Conspiracy, no ! " و ( مخاطر اليقظة الثقافية ) "The dangers of cultural vigilantism " و التي عبرها تظاهر بأنه ينتقد ماكارثي. شجع على الوشاية ضد الموظفين، المفكرين و السياسيين المقربين من الشيوعيين. ادعى "هوك" دائما فيما بعد انه لم يساند قط السيناتور ويسكونسن، و هو ما تستنكره عليه الفيلسوفة " حنا أريندت"، التي كانت حليفة طبيعية ل"هوك".

في عبارة " مخالفة المألوف نعم!" يصف الوضع الأيديولوجي " للمتحررين الواقعيين" ومفهوم " الذنب عن مخالطة". استنتج أنه على الدولة أن تمارس " مطاردة السحرة" بإبقائها على مظهر النظام الليبرالي. لأجل هذا، على الإدارة ، بدل أن تجرم الموظفين الشيوعيين عليها أن تجبر الأشخاص المشكوك في أمرهم على الاستقالة. فيما يخص الأساتذة، ذكر "هوك" أن الأستاذ الشيوعي " يمارس احتيالا مهنيا حقيقيا" [3]. في الأخير، اعتبر "هوك" أن " مطاردة السحرة" بمثابة الخطأ السياسي، ليس لطبيعته الفاشية للحملة النميمية تلك، و لكن لأن مبادرة ماكارثي، قليلة الحذر، تساهم في تكافؤ العنف السوفييتي و الأمريكي. في " مخاطر اليقظة الثقافية"، أطرى على وسائل أخرى، أكثر سرية، لأجل مطاردة الشيوعيين: يتعلق الأمر مثلا بتوكيل مهمة التحقيقات عن الولاء، إلى المحترفين.

بالطبع فإن "سيدني هوك" يفضل العمليات الحذرة و السرية. تورط في العديد من العمليات من الحرب الثقافية الباردة، منها المجلس لأجل الحرية و الثقافة الذي يضع في الاعتبار رؤيته للديمقراطية، التي وجدت كواجهة ضرورية للكتلة الأطلنطية التي تديرها الولايات الأمريكية. في سنة 1972، غادر نيويورك و أصبح إلى غاية موته واحدا من أهم المنظرين المحافظين الذين تجمعوا في خضم مؤسسة هوفر
 [4] . بارتياده دوائر الدبلوماسية السرية، أصبح "سيدني هوك" محافظا محترما من قبل الحكام. قي سنة 1985، منحه رونالد ريغان أعلى امتياز مدني أمريكي، ميدالية الحرية "Medal of Freedom" في اليوم نفسه مـُنح وساما إلى فرانك سيناترا و جيمي ستيوارت. توفي في سنة 1989. تلقت زوجته التعازي من الرئيس بوش: "طوال حياته، كان مدافعا عن الحرية بلا خوف (....) بينما كان يعلن أحيانا ألا وجود للمطلق في الحياة. السخرية أبت إلا أن تثبت له شخصيا العكس لأن ثمة مطلق، و هو ما كان "سيدني هوك" سيحاربه بكل شجاعة لأجل الشرف الفكري و لأجل الحرية"!

تحويل التروتسكيين

" خيانة" "سيدني هوك" التي حـَوّلت ممكنا انتصار حملة التسميم لـ"والدورف" بمثابة نقطة الانطلاق لحركة الارتداد لجزء من جناح التروتسكيين. مكتب الاستعلامات المركزية الأمريكية و مكتب المخابرات البريطانية وضعا الثقة في الماركسيين التائبين لأجل خوض عملية على نطاق واسع : صناعة " أيديولوجية منافسة للشيوعية"، حسب تعبير "رالف موراي"، المسؤول الأول للاستخبارات البريطانية، الذي كان المجلس لأجل الحرية و الثقافة أهم طريقة للترقية.

تكتيك من مكتبي الاستعلامات المركزية الأمريكية و الاستخبارات البريطانية تركز في أول

دانيال بيل
الوقت، على " تحويل" المناصرين التروتسكيين و ضمان طاعتهم. لأجل هذا، استثمرت المكاتب جانبا من الأموال السرية التي كانت بحوزتها لأجل " إنقاذ" المجلات الراديكالية من الإفلاس التام. بهذا الشكل تلقت مجلة " Partisan Review " المقتطعة من مفكري نيويورك، المنبر القديم للشيوعيين الأرثوذكس، ثم التروتسكيين [5] تلقت العديد من المساعدات المادية. في عام 1952، بفضل دانيال بيل منح "هنري لوس" رئيس إمبراطورية "Time-Life" 10.000دولار حتى لا تحتفي المجلة. في نفس السنة، نظمت مجلة " Partisan Review " حلقة دراسية كان موضوعها العام :" تحولت أمريكا اليوم إلى حامية الحضارة الغربية"!

ويليام كريستول

منذ سنة 1953، بينما كان مفكري نيويورك يهيمنون على المجلس لأجل الحرية و الثقافة، حصلت مجلة " Partisan Review"على إعانة مالية ناجمة من " حساب المهرجان" للمجلس الأمريكي لأجل الحرية و الثقافة، و الممول من قبل مؤسسة فارفيلد... مع أموال من مكتب الاستعلامات المركزية. بنفس الطريقة، أنقذ برنامج " New leader " الذي ينشطه سول لوفيتاس " " بعد التدخل المالي من " توماس برادن.. بأموال مكتب الاستعلامات المركزية. نفهم أكثر كيف استطاعت الوكالة أن تؤلف قلوب بعض الجماعات من اليسار الراديكالي. ثم ، بالإضافة إلى " إنقاذ" مجلة " Partisan Review "، تعاون مكتب الاستعلامات المركزية مع مصالح المخابرات البريطانية، لأجل تأسيس مجلة مناهضة للشيوعية. تم توظيف "أرفن كريستول"، المدير التنفيذي للمجلس الأمريكي لأجل الحرية و الثقافة.

دخل "كريستول" إلى "سيتي كوليج" سنة 1936 أين التقى برفيقيه القادمين من الحرب الباردة، "دانيال بيل" و "ملفين لاسكي". بصفته تروتسكي مناهض للستاليين، عمل لأجل مجلة " Enquiry " . بعد الحرب، وُظف من قبل مصالح الولايات الأمريكية، عاد إلى نيويورك لإدارة المجلة اليهودية " Commentary ". و بتمويل مباشر من قروض فارفيلد ( مكتب الاستعلامات المركزية الأمريكية )، كُلف بابتكار صداما تحت أنظار " جوسلسون". " المجلة X" التي أدارها مع الغبي "ستفان سبندير" هي شفرة الرمح الأيديولوجي للمحافظين الجدد الأمريكيين.

الصراع ضد الشيوعية في المجلس لأجل الحرية و الثقافة

مفكرو نيويورك و آخرون من الشيوعيين التائبين هم على اتصال مع " جوسلسون" ( كان الموضوع تحت أوامر "لورانس دو نوفيل ) الذي كُلف بتأسيس المجلس لأجل الحرية و الثقافة لحساب مكتب الاستعلامات المركزية. الهدف هو تنظيم " الحرب البسيكولوجية" في أوروبا الشرقية، وفق عبارة " أرتور كوستلير": ضد موسكو.
ولد "أرتور كوستلير" عام 1905 في بودابست، كان مناضلا شيوعيا نشيطا طوال سنوات. سنة 1932، زار الاتحاد السوفييتي. من كتبه : التمويل الدولي. بعد أن أبلغ الشرطة السرية الروسية ضد صديقته الروسية، غادر موسكو و التحق بباريس.

طوال الحرب، القي عليه القبض بصفته سجينا سياسيا. عندما انتهت الحرب كتب كويستلر " الصفر و اللامنتهى"، كتاب رسم فيه مساره و أدان الجرائم الستالينية.

اللقاء مع مفكري نيويورك عن طريق جامس برنهام، سمح له بارتداد الأوساط التي تشهد القرارات الثقافية السرية. جرّاء العديد من اللقاءات مع ضباط من مكتب الاستعلامات المركزية الأمريكية، اشرف على تأليف كتاب مشترك، توصية مباشرة من المصالح. اله الظلمات ( أنريه جيد، ستيفان سبندر..) صاغ إدانة قاسية للنظام السوفييتي. اشتغل "أرتور كويستلير" فيما بعد في إطار إقامة المجلس لأجل الحرية و الثقافة.

كتب كويتسلير " منشور الرجال الأحرار" بعد الاجتماع مع " Kongress für Kulturelle freiheit" في برلين المنعقد سنة 1950 من قبل صديقه "ملفين لاسكي". بالنسبة إليه، " الحرية أخذت الهجوم". كان "جامس برنهام" هو المسؤول عن توظيف "كويستلر" الذي صار، بسبب حماسه المتقد، مزعجا في نظر متآمري المجلس.

عرّاب "كويستلير"، هو "جامس برنهام"، الذي ولد سنة 1905 في شيكاغو. أستاذ في جامعة نيويورك، تعاون مع عدد من المجلات الراديكالية و شارك في بناء " Socialist Workers Party ". سنوات من بعد، نظم انشقاق مجموعة تروتسكي [6].

في سنة 1941، نشر " Managerial Revolution"، منشور مستقبلي للمجلس لأجل الحرية و الثقافة، تـُرجم في فرنسا سنة 1947 تحت عنوان " عصر المنظمين ". ارتداد "برنهام" في غاية المشهدية. في ظرف سنوات، بعد أن التقى مسؤول شبكة " ستاي بيهاند [7] ، "فرانك وسينر" و مساعده "كارمن أوفي"، صار واحدا من المتقدين المدافعين عن الولايات الأمريكية، التي هي حسبه بمثابة المتراس الوحيد في وجه البربرية الشيوعية. أعلن: " أنا ضد القنابل المخزنة حاليا في سيبريا و القوقاز، و التي وضعت لتدمير باريس و لندن و روما (...) و الحضارة الغربية بصفة عامة (...) لكنني مع القنابل المخزنة في لوس ألاموس (...) و التي منذ خمسة أعوام سعى إلى الدفاع ـ الدفاع الوحيد ـ عن الحريات في أوروبا الغربية." بوعي كامل لتركيبة شبكة ستاي بيهاند، انتقل "برنهام" الصديق الحميم لـ"رايموند أرون"، من التروتسكية إلى اليسار المحافظ ليصبح واحدا من الوسطاء الرئيسيين بين مفكري المجلس و مكتب الاستعلامات المركزية الأمريكية. في سنة 1950، عندما تلقى " ملفين لايسكي" أموالا مختلسة ناجمة من مخطط مارشال، وُضع كل من "برنهام" و "هوك"، و "كويستلر" في السرية. بفضل المجلس لأجل الحرية و الثقافة استطاع "برنهام" توزيع كتابه " The Managerial Revolution. " .

أيديولوجية متنافسة مع الشيوعية

يعد "رايموند أرون" [8] من أهم مناصري تصدير إلى فرنسا أطروحات مفكري نيويورك. في سنة 1947، طلب بإلحاح من منشورات "كالمان ـ ليفي" أن تنشر الترجمة الفرنسية من كتاب " The Managerial Revolution ". في نفس الوقت، دافع "برنهام" في الولايات الأمريكية على كتابه الجديد " Struggle for the World " ( لأجل هيمنة عالمية ). عصر المنظمين تم تفسيره، بالخصوص من قبل البروفيسور "جورج غيرفيتش"، كدفاع عن " التكنوقراطية". أعلن "برنهام" أن المدراء هم الأسياد الجدد للاقتصاد الدولي. حسب المؤلف، الاتحاد السوفييتي أبعد ما يكون قد حقق الاشتراكية، هو نظام تهيمن عليه الطبقات الجديدة المتكونة من " التقنيين" ( الديكتاتوريين البيروقراطيين). في أوروبا الغربية و في الولايات الأمريكية، حظي المدراء على السلطة على حساب البرلمانيين، و أرباب العمل التقليديين. بهذا، عصر الإداري يعني فشل مزدوج، فشل الاشتراكية و الشيوعية. كان الهدف الأساسي لـ"برنهام" هو طبعا التحليل الماركسي/اللينيني الذي يعتبر أن مبدأ الجدلية التاريخية، يعلن عن قدوم المجتمع الشيوعي العالمي. بالطبع، " الاشتراكية لا تأخذ مكان الرأسمالية". أساليب الإنتاج، المؤممة نسبيا، ستوكل على طبقة من المدراء، و هي المجموعة الوحيدة القادرة على تسيير دولة آنية، بسبب فعاليتهم التقنية.

فهم "ليون بلوم" جيدا الأبعاد الأساسية المناهضة للماركسية للأطروحات التكنوقراطية لـ"جامس برنهام". بعد الحرب، بصفته حليفا لواشنطن، الرجل القوي سابقا للجبهة الشعبية هو الذي كتب مقدمة الترجمة الفرنسية، ليس مضطرا و لا مترددا:" إن لم أكن متأكدا من تعاطف البعض و صداقة البعض الآخر، لوجدت في هذا الطلب أثرا للخبث (...) لا نتصور قط العمل الذي، بفكرة من قارئ اشتراكي، استطاع أن يمارس صدمة غير متوقعة و مربكة." [9] . مع عرّاب مثل "رايموند أرون"، و كاتب مقدمات مثل "ليون بلوم"، عرف عصر المنظمين نجاحا كبيرا.

مقرّبا من "سيدني هوك" الذي معه ساند " مطاردة السحرة"، نشر دانيال بيل في عام 1960 "نهاية الأيديولوجيات"، مجموعة من المقالات المنشورة في " Commentary, Partisan Review " New Leader. كتب مقدمة الترجمة الفرنسية "رايموند بودون"، الذي طوال حياته حارب نظريات المدرسة الفرنسية لعلم الاجتماع التي جسّدها "إميل دورخيم" و "بيير بوديو" بهدف فرض رؤية أمريكية للعلوم الاجتماعية. نهاية الأيديولوجية، كما يعرّفه العنوان، يستعيد الأطروحة المفضلة لمفكري نيويورك، برغبة إخماد الشيوعية كمثالية.

سيدني هوك،نورمان بودوريتز،مورجونتو و .ه.ستيوارت،أثناء مداخلة حول القيم الغربية والحرب الشاملة عام 1961.

العضو النشيط للمجلس لأجل الحرية و الثقافة "دانيال بيل"،، الذي ساهم في نشر كتابه، أعلن هو الآخر عن بروز الصراعات الأيديولوجية الجديدة: " نهاية الأيديولوجية قامت بتنبؤ تفكك الماركسية كيقين، و لكنه لا يقول أن كل أيديولوجية تمضي إلى نهايتها. ألاحظ أن المفكرين عادة ما يكونون متلهفين للأيديولوجية و الحركات الاجتماعية الجديدة تشجع بروز أيديولوجيات جديدة، سواء تعلق الأمر بالعروبة، أو إثبات اللون أو الجنسية" [10].

من مناهضة الشيوعية إلى المحافظين الجدد

مفكرو نيويورك، الذين جندوا في العديد من عمليات التسلل، لا يكشفون عن انتمائهم الأيديولوجيإلا في وقت متأخر، ملتحقين بصفوف المحافظين الذين يقود معقلهمعددمنالماركسيينالتائبين."إيفانكريستول"،الذيرعىالتقارير النزاعية مع "جوسيلسون"، قاد مجلة " Commentary من سنة 1947 إلى 1952 ". وجه رئيسي آخر منالمحافظين، "نورمان بودوريتز"، صارفيما بعد على راس المجلة شبه الرسمية للمجلس لأجل الحرية و الثقافية من سنة 1960 إلى 1995. في فرنسا،وفيسنة 1978 أسس "رايموند أرون" مجلة " كومونتير" ( تعليق) [11].
"وليام"، ابن "إرفين كريستول"، هو مدير المجلة المقربة جدا من المحافظين " Weekly Standard ".

على عكس أطروحة ذائعة الصيت، لم يكن هنالك تسلل تروتسكي داخل اليسار الأمريكي، و لكن كان ثمة استعادة من هذا الأخير لعناصر تروتسكية، أولا في إطار تحالف ايجابي ضد الستالينية، ثم تشغيل إمكانياتهم الجدلية في خدمة الإمبريالية المسماة ليبرالية. "برنهام" و "شاتشمان" غادرا حزب العمال الاشتراكيين" Socialist Workers Party " سنة 1940 لتأسيس حزب انفصالي. خطب "ماكس شاتشمان" مبدأ الاقحامية في الحزب الديمقراطي. التحق بالصقر الديمقراطي " هنري "سكوب" جاكسون، الذي كان يلقب باسم " السناتور بوينغ" لمساندته
المطلقة للمُركّب العسكري الصناعي.

أعاد تنظيم حزبه كنزعة داخل الحزب الديمقراطي تحت تسمية " حزب الديمقراطيين الاجتماعيين الأمريكيين" (SD/USA). في غضون السبعينات، أحاط السيناتور "جاكسون" نفسه بعدد من المساعدين اللامعين مثل " بول لوولفويتز"، و "دوغ فيث"، "ريتشارد بيرل"، "إليوت أبراهامس"
 [12].

وباحتفاظه لأكبر مدة ممكنة بخطابه اليساري المتطرف، صنع "ماكس شاتشمان" من " حزب الديمقراطيين الاجتماعيين الأمريكيين " مستودعا لمكتب الاستعلامات المركزية قادرا على إفقاد مصداقية تشكيلات اليسار المتطرف، بينما صار أحد أهم مستشاري المنظمة النقابية المناهضة للشيوعية (AFL-CIO ) [13] . نجد في المكتب السياسي لحزب الديمقراطيين الاجتماعيين الأمريكيين" (SD/USA) شخصيات مثل "جان كيركباتريك، والذين صاروا أيقونات عهد ريغان.
في إطار غموض تام للأنماط، "بول وولفويتز" المُنظـّر من اليمين المتطرف تدخل كخطيب في مجلس حزب اليسار المتطرف. صار "كارل غيرشامن" رئيسا لحزب الديمقراطيين الاجتماعيين الأمريكيين" (SD/USA)، هو اليوم المدير التنفيذي لـ " National Endowment for Democracy " [14] . بصفة عامة، أعضاء ذلك الحزب بمن فيهم كبار المتناوبين من مجلة " Commentary " و " Committee for the Free World "، تم تكريمهم على مراوغاتهم انطلاقا منذ انتخابات رونالد ريان.
مفكرو نيويورك لم يطوّروا من النقد ضد اليسار الشيوعي فحسب، بل اخترعوا غطاء " من اليسار" للأفكار اليسارية المتطرفة، حيث المصدر النهائي هو المحافظة الجديدة. هكذا، هل يستطيع، "آل كريستول" و أصحابهم تقديم جورج بوش بثقة على أنه " مثالي" يعمل على " دمقرطة" العالم؟

ترجمه خصيصا لشبكة فولتير: ياسمينة صالح جميع الحقوق محفوظة 2004©

[1" Frances Stonor Saunders " من يقود الرقص؟ مكتب الاستعلامات المركزية الأمريكية و الحرب الثقافية الباردة، دونويل،2003.

[2عندما مول مكتب الاستعلامات المركزية المفكرين" الأوربيين" بقلم دونيس بونو، فولتير،27 نوفمبر2003.

[3برنارد غنتون، هاجس مناهض للشيوعية، سيدني هوك (1902ـ1989) ستراسبورغ.

[5" Terry Cooney, The rise of the New York Intellectuals, Partisan review and its circle, University of Wisconsion press "

[6أنظر رسالة الاستقالة ل"جامس برنهام" على موقع " Marxists.org"

[7" ستاي بيهاند: شبكات التدخل الأمريكية"، بقلم تيري ميسان، فولتير،20أغسطس2001.

[8" رايموند أرون" محامي الأطلنطية" بقلم: دونيس بونو، فولتير،21أكتوبر2004.

[9جامس برنهام، عصر المنظمين، كالمان ـ ليفي،1947.

[10دانيال بيل، نهاية الأيدلوجيات، الصحافة العالمية لفرنسا،1997، ص 212.

[11" الوجه المخفي من مؤسسة "سانت سيمون"، بقلم دونيس بونو، فولتير،10 فبراير.

[13"AFL-CIO ? أو AFL-CIA " بقلم: بول لاباريك، فولتير، 2حزيران2004.

[14" التدخل الديمقراطي الغامض" بقلم: تيري ميسان، فولتير،22 يناير2004.